طباعة هذه الصفحة
الأحد, 05 كانون2/يناير 2014

الكنز

  جمال حكمت عبيد
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

ء
قبالة سوق( الطمة).. وهو مكان قديم في شارع النهر ببغداد ..يقال عنه :انه كان في سابق الزمان (حمام السيدة زبيدة بنت جعفر المنصور إحدى زوجات هرون الرشيد )؛ _
وكان يطل على نهر دجلة وفيه من الطرق والدهاليز الصغيرة ، كأنها مدينة السحر في مدينة الالعاب ( وقبل أن يؤول إلى الخراب التام كان هنا حمام حيدر )) )

منذ بضعة عقود مضت بنى مالك السوق الحاج نوري مجموعة محال إختص أصحابها بتصفية الذهب والفضة وفي كل صباح باكر' وحيث يسكن الماء بغفوته ، شامراً غطاءه الشفاف مع نسيم الصباح الهادئ كاشفاً عن الرقائق اللامعة والغافية فوق وسادة الرمل ، والهاربة في الامس من
أيدي أصحابها من الورش ومحلات الذهب التجارية
كان الشباب المتواجدين قبالة( الطمة).. واقفين عند جرف
نهر دجلة وهم حفاة الأقدام ويرتدون ملابس العمل القديمة والمشبعة بروائح ماء
النهر الذي صنع برطوبته جداول اخترقت ثيابهم' وراحت تمس أجسادهم الملساء
النحيلة مخففة شدة حرارة الشمس اللاسعة كلدغة الدبور وهم غير آبهين ولا شاعرين
بنسائم دجلة التي تغنى بها شعراء بلدهم وكان همهم الوحيد هو رزقهم من غسل حفنات من تراب الجرف علهم يعثرون على ذرات الذهب العالقة والنائمة برمال النهر ..و يقومون بجمعها.
ثم صهرها عند اصحاب الافران النارية المتواجدين في الطمة حتى يحصلوا على قرص فضي فيه نسبة من الذهب الخالص؛ احيانا لا تتجاوز
البضعة سنتات يبيعوها الى ورش الذهب او الصاغة حاملين بضعة نقود
يعودون بها الى بيوتهم بعد مغيب الشمس خائري القوى ووجوههم شاحبة امتزج
بها العرق والرماد؛ بعد ما انهكتهم شمس العراق الحارقة بحرارتها والتي تصل في ايام
الصيف50 درجة مئوية وحرارة الافران وغازاتها الملوثة ..وكانوا في بعض
الاحيان يجمع الواحد منهم غرام واحد من الذهب في الاسبوع , فلا حيلة لديهم ؛ فالحصار

أحكم براثنه عليهم، والحروب التهمت بسعيرها كل خيرات بلادهم ،وها هم يجمعون
تراب النهر علهم يلقون رزقا حلالا.. يقوتون به ابدانهم ويعيلون به أهلهم
وحدث في وقتٍ ما حادثٌ جعل هؤلاءِ ( شباب الطمّـة )يتوسلون بكلِّ الوسائل لأجل إقناع سوادي أن ياتي معهم مقابل مبلغ يحدده بعد ما عرفوا في الصباح أنه قد عثر قبل يومين على السوار الذهب الذي فقده جودة رحمه الله منذُ أربعين عاماً مخفيا نائما مع برادات الذهب الناعمة في تراب البالوعة القديمة ' التابعة لقيصرية باب الشيخ ببغداد (والقيصرية:هي مجموعة محال تجارية متقابلة
تبنى تحت سقف واحد يكون لها مدخل ومخرج واحد ) والتي لم يروها في حياتهم قط ، وكانت ملامحها قد أخفتها السنون ولم تعد هناك محلات للصياغة وكان هدفهم البحث في البالوعات القديمه والمتروكة، حيث كانت مجرى لمياه القيصرية ولا يعرف خريطتها سوى { سوادي } فهوعندما كان طفلا في سن العاشرة كان يشتغل مع قريبه جودة ليتعلم حرفة الصياغة منذ أربعين عاماً مضت،وهوالآن إبنُ الخمسين ، نحيفَ الجسم قوي العظم متوسط الطول ؛ له صفة قلَّ من يتمتعُ بهـا ؛ ألا وهو براعته في نقدِ الأشخاص وإقناع الآخرين عن طريقِ الحلفان بذكر أسماءِ المتوفين من جماعة الشخص الذي يحادثه ؛ فيمطره بوابل من الأدعيّة والرحمة على موتاه ؛ مما يجعل الشخص لا يفلت من تلبية طلب جاءمن أجله والقسم بأغلظ الأيمان من أجل إقناع الآخرين بصدق نواياه .
وزوجته واولاده الاربعة في بيت بسيط، وكان قد علق على جدار حجرة الجلوس
صور المتوفين من الذين أحبهم شيوخاً وشباباً ، صف صورهم بشكل يدعو للاحترام وجعلهم شهود على كلامه حينما يأتيه الضيوف .
في هذه الليلة كان الهدوء سيد الموقف كان سوادي يسكن هو وزوجته وأولاده الأربعة في بيتٍ واحد

والمكان خال من المارة والملازم حسن مأمور مركز الشرطة في خفارته ... كان
سوادي يعرفه

و قد إستاذنه- بانه سوف يقوم بتنظيف بالوعة قديمة في جنح الليل في ذلك المكان القديم خوفاً من الحرج لاغير فالمكان كان متروكاً ، وليس هناك أي مساءلة قانونية، وهديته محفوظة فلا داعي للقلق .
كان القمر قد علا ضؤوه الفضي الممزوج بسواد الليل ، واللآليء زينّت أبراجها المعلقة في السماء الصافية وعكست بياض شعر سوادي المموج والمعت هضبات الكبر التي بدأت تحيط بعينيه و وجه
الشباب السته الذين أتوا معه ولونتهم الشمس بلون برونزي مزج سمرة وجوههم بضوء القمر -وقف سوادي في وسط صف الشباب وهو يرتدي قميصاً أصفر اللون وبنطلوناً أخضر ،ويتوسط خصرَه حزامٌ عرض إصطف هؤلاءِ كالهلال خلفه ووجوههم باتجاه أطلال القيصرية وكأنه الجنرال غراتسياني وهو يؤشر إلى مواقع إختباء عمر المختار وثواره في منطقة الجبل الأخضر الليبي
-كانت يده اليسرى تتوسط خصره واليمنى يشير فيها بسبابته ملوحاً الى جهة
اليمين والشباب واقفين فكبيرهم كان لا يتجاوز العشرين عاماً متحمسين

ماسكين معاولهم ومساحيهم ولفائف اكياس البلاستك السوداء ليملاؤا
بها صيدهم لاعقين شفتهم العليا بلسانهم وكانهم شموا رائحة الكنز
الذي حدد مكانه سوادي ببراعة فاقت براعة كولمبس في إكتشاف القارة الجديدة
عن طريق الصدفة . بالنسبة لسوادي لن تكن صدفة بل خطط للموضوع وإستحظر كلَّ ذاكرته
ودهائه قال سوادي وبثقة : يا شباب في هذا الاتجاه كان محل المرحوم ابو عادل حيث: كان رجلاً طيبَ القلبِ ، جميل الوجه له عينان رماديتان تميلان للزُّرقة ، لكنَّ الرجلّ كثيراً ما كان يترك محلهَ ؛ لفضِ نزاع المتخاصمين من اقربائه ؛ فهو كما يسمى في العرف العشائري( فريضة) إهتم بحل
مشاكل الناس أكثر من رزق عائلته وفي كل يوم كان جاهزا بكوفيته(الغترة البيضاء
وعليها عقاله الاسود مرتديا الجلباب(الدشداشه) البيضاء النظيفه معلقاً عباءته العربية المنسوجة من الصوف خلفه ، فكان دائماً جاهزاً عند الطلب ، وبدون مقابل ، وجاره إبنُ عمـه أبو عبادي
رجل أسمر واضح المعالم ، طويل القامة' تأثر بالسياسة وأصبح متّـهما بالشيوعيه فكان بين
فترة واخرى يؤخذ الى المعتقل.. ولا يخرج منه إلا بعد فترات متباعدة ،وواحدة منها وصلت
سنتين ويقال والله اعلم ان ابنه عبادي كان يفتح المحل خلسة من رجال
الامن ليشتغل به ليعيلَ اُمَّـه وإخوته.؛ وقبالهم كانت محلات جهلتُ
أسماء أصحابها وبين المحلين والمحلات المقابلة توجد بالوعة وانا سأدلكم عليها
سادله على البالوعة !
استنكر البعض وقالوا: يعني تطلب منا ما يعادل مثقالاً من.. – خمسين ألف دينار الآن: من يدفع
الذهب الخالص' لمكانين كان صاحبيه غير متواجدين بهما، بينما راح إثنان من
الشباب يبحثان على عجالة في جيوبهم وهم يعرضون عليه ثلاثين ألفاً.. وعلى
خاطر أرواح الطيبن اللذين عاشوا هنا' وقابلهم سوادي بالرحمة لاسمائهم ولأجل خاطرهم
سوف يجعلهم راضين على الجميع بأن يعطوه أربعين الف.. وبعد الحلفان الذي كاد لا ينتهي حتى طلوع الفجر إقتنع إثنان منهم وأعطوه كلَّ ما يملكون (سبعة وثلاثين ألفا
وراح يدلهم على المكان.. بعد ان استلم المبلغ وعده تحت ضوء القمر ، ثم عاد مسهباً في كلامه :واما جهة اليسار حيث محل المرحوم جوده الشاب الجميل الوجه والحلو الطول ذو العينيين السوداوين المنتفختين والشعر الاسود الفاحم المقلوب الى الخلف ..وكان يكنى له انور وجدي
فزبائنه من السيدات اللواتي كن يستانسن بجماله وطيب كلامه' وقباله محلات اخرون نسيت اسمائهم ضرب جبينه براحت يده اليمنى (لعنة الله على الشيطان) قالها: سوادي ثم سكت.. وبعجالة استطرد قائلا
:هذا المكان ابيع بالوعته بمائة الف دينار؟' احتج الباقون
وقالوا: هذا استغلال فنحن بالكاد وحسب تقديراتنا: حتى لو
اخذناه بالكاد ان نصل الى هذا المبلغ بعد الاشتغال به وخصوصا
انك قد اشتغلت به كما تدعي قبل يومين وحصلت على السوار والذهب..
استنكرسوادي كلامهم
وقال: انتم غشموهل تعرفون ان جودة ومن قابله من المحلات كانوا لا يرجعون إلى بيوتهم
الآ بعد مغيب الشمس بساعة وهذا يدل على سوقهم الماشي وبين اخذ وجذب استقر
الحال و جلس القرفصاء .
- يالها من ليلة جميلة قالها: سوادي
مائة وسبعة الف دينار قبلها ولصقهاعلى جبينه ودسها في جيبه ، وكله ثقة
وأمل بان الشباب سوف يدعون له بالخير.
يتابعهم ويرشدهم ولسانه يرش عليهم بالخير والبركة والترحم
للمتوفين ويقول نحن جميعا اقارب ورزقي هو رزقكم –سحب الشباب بمعاولهم ومساحيهم
تراب الماضي وكلهم امل بانهم سيظفرون بكنز وان اجدادهم لن ينسوهم في زمن
القحط والحصار .
فجأة!! ساد الهدوء في الغرفة' ثم
اعتلاه صوت الشخير ' وراح أنهر يقول: لاتنام ياجدي اكمل لي القصة... هل
عثروا على
الكنز؟

الدخول للتعليق