طباعة هذه الصفحة
الأحد, 23 آذار/مارس 2014

سارتر

  جمال حكمت عبيد.
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

في يوم ربيعي جميل مليء بفرحة عيد(نوروز)*عيد الربيع، الذي سوف يحل بعد يومين.

 كان طلبة جامعة السليمانية يرتدون الزي الجامعي الموحد(السترة الزرقاء والبنطلون الرصاصي) والاكراد منهم مرتدين الزي الكردي  التقليدي بلباس( الشروال) العريض، اما الطالبات  الكرديات  تزينّ بلباس جميل  شفاف جمع كلّ الوان الطبيعة، متحديات بعضهن بثمار رمانهن المعلق على سفوح صدورهن.

 فهذا العيد بالنسبة للأكراد؛ هو عيد السنة الجديدة، وعيد الانتصار...وكان نادي الطلاب يصدح بأغنية عيد نوروز للمطرب الكردي (حسن زيرك) واغنية  ( نوروز-هاتوا) الأغنية الكردية الجميلة. والنيران المشتعلة في ليلة العيد  ستنتشر في الشوارع وسفح جبل (ازمر) والتلال المحيطة بالمدينة كلها عناوين لأفراح العيد.

- كان بعض من  هذا الحشد الجميل جالساً في الطابق الرابع، في قاعة دراسية عُدّت لاستقبال خمسين طالباً ، طَليتْ جدرانها بلون أبيض، وسقفها تلألأ بمصابيح  بيضاء طويلة ،كانت شبابيك القاعة عريضة اخترقتها اشعة شمس النهار بخيوط رفيعة متوازية؛ وكأنها عارضة أفلام، تعرض اوتار خيوط الشمس الفضية المتراقصة فوق رؤوس الطلبة الجالسين على المقاعد، بشهادة جبل أزمر الشاهق الذي أحاط الحضور ومن بعيد بإطاره الصخري الأحمر  .

 لقد  ازدحم المكان بالحضور من الطلاب ،  باستثناء المقاعد الأمامية فكانت بانتظار الأساتذة الذين سيناقشون البحث او (المشروع او السمنر) الذي سيتلوه (سارتر) ذلك الطالب الشاب الأسمر الواقف خلف المنصة وفي الحقيقة كان اسمه ( سامي).

- كان سامي قد علّق على السبورة الخضراء التي خلفه، ثلاث وسائل ايضاح لبحثه ، وكانت من الورق المقوى الأبيض طولها متر وعرضها نصف متر، والوسيلة الرابعة كانت ملفوفةً وضعها بجانبه.

 

- كان سامي  طالب في المرحلة المنتهية في كلية الزراعة و في قسم البستنة ، وكان طويل القامة نحيف الجسم، له بشرة سمراء مائلة للصفرة ذو عينين مدورتين يعلوهما حاجبان خفيفان، اعتلتهما  جبهة عريضة، وله شعر أسود مجعد ملأ رأسه المدور والمحمول على  رقبةٍ ممدودة طويلة بانت عروقها  وكأنها أغصان رفيعة، حيث استندت رقبته على منكبين بارزين  متصلبين؛ حمتهما سترته الزرقاء، التي  لم تفارقه  منذ عامين. اما بنطلونه فكان قصيراً يجاهد  ليصل الى أعلى حافة حذائه .

 

اختار له زملاءه كُنية (سارتر)؛ لكونه كان حاملاً ومدافعاً عن أفكارٍ  سمعتها لأول مرة منه ؛ فقد كنت حينها جالساً في نادي الطلاب، وقد التف حوله مجموعة من الطلبة  وكانوا  يناقشونه  عن فلسفة المذهب الوجودي، وعن نظريات الفيلسوف الفرنسي سارتر، الذي كان سامي مؤمناً بنظرياته...  موضحاً ومدافعاً عن (الذات البشريه والوجود الانساني وما تعرض له الانسان من المآسي في ظل الحروب وكيف عبثت أفكار اخرى به واستسخفت كيانه وجعلته يضيع تحت مسمّيات) ، ونقاشات كثيرة حول رواية الغثيان لسارتر وطابعها النفسي العميق؛ والتي جعلت من بعض الطلبة يطلقون عليه بانه وجودي وآخرين اتهموه بالماركسية، واخرون اتهموه بالإلحاد واكتفى الغالبية بتسميته بسارتر المجنون، فهو هادئ الطبع لا يتدخل بشؤون الآخرين؛ يسكن في غرفة في فندق شعبي وسط المدينة.

 

- دخل الأساتذة المشرفون والمناقشون للبحث وأغلقت باب القاعة، وكان عليه ان يبدأ... فالوقت المتاح نصف ساعة فقط لشرح البحث، الذي كان عنوانه (دورة حياة الفراشة) حيث حصل من الكلية على صندوق خشبي مربع صغير فيه يرقات فراشة، عمر اليرقات لا يقل عن اسبوع، وقد وضعت في الصندوق بعض من اوراق الخس وقشور البرتقال لتتغذى عليها اليرقات .

 

بدأ سامي يستعرض للحضور  في مقدمة البحث، مؤشراً بقلمه على  الوسيلة الأولى وكانت فيها معلومات توضح تصنيف الفراشة على اِنها من الحشرات النافعة...  وعدّد فوائدها، وحينما انتهى منها؛ انتقل وبكل رشاقة الى الوسيلة الثانية  حيث رسم صورة فيها دورة حياة الفراشة والمدة الزمنية التي تقضيها لتصبح فراشة... موضحاً نصائحه وتوقعاته في هذا المجال ، ثم انتقل بسرعة الى الوسيلة الثالثة وفيها صورة  كبيرة لفراشة ، لونت بالوان جميلة، واخذ يؤشر على اجزائها التي تنقل حبوب اللقاح وما هو أنسب وقت للاستفادة منها ...ثم انحنى بهدوء نحو وسيلة الايضاح الرابعة والملفوفة امامه ...سحبها  وهو يقول  بثقة اعذروني: لصغر المكان لن استطع تعليقها ...كان  يهم بفتحها ويحاول لصقها فوق اخواتها وقال سأعرض اليكم نتائج بحثي التي توصلت اليها... وكانت عيون الطلاب قد تهيأت لشيء جاءوا لأجله، ليكمل فرحتهم ومرحهم بالعيد، الذي بدأت بشائره بسارتر؛  فتح اللوحة واذا بها لوحة فارغة كتب عليها نتيجة البحث=صفر، والسبب: عامل فندق مهمل...  وانفجر الحاضرين بالضحك وعم الهرج في القاعة وكأنهم قد حققوا ما أتوا لأجله... لكن الأستاذ المشرف طلب من الطلاب السكوت... واستطرد سامي وبكل هدوء بتوضيح فكرته التي خرج بها من البحث؛ وقال: يقول سارتر( كل شيء في الوجود تسبقه ماهيته ما عدا الانسان فوجوده يسبق ماهيته المتمثلة بشخصيته)... واخرج ملعقته التي لا تفارق جيبه وقال: سأضرب لكم مثلاً فهذه الملعقة لها ماهية في الوجود؛ اي عناصر بنائها موجودة وثابته في الطبيعة ولهذا سهل على العامل صنعها بعد ان رسم فكرة بنائها، ثم صنعها واصبحت بشكل سميناه ملعقة...

 

والفراشة كانت ماهيتها موجودة بالبيوض ثم اليرقات  لتصبح فراشه؛ ولكن وكما قال سارتر( كل ما هو موجود وجد بلا مبرر ويستمر في الحياة ويموت عن طريق المصادفة) ، والمصادفة كانت في بحثي هو عامل الفندق الذي أسكن فيه؛ فقد ظن ان صندوق البحث الذي كنت قد وضعته تحت سريري والذي كانت فيه اليرقات نائمة فظنها اعقاب سجائري ورماها مع النفايات خارج الفندق... واستطرد في قوله :لهذا السبب  انا لا استطيع ان اقدم لكم فراشة لأني فقدت ماهيتها وقد  تعرضت للموت عن طريق الصدفة ...

 صمت احاط جوّ القاعة، ودهشة اصابت الطلبة من هذا الطرح؛ بينما الأساتذة اخذوا يتهامسون ووجوههم تعلوها ابتسامة الاستمتاع والاستغراب وقال له احدهم: هل لك كلام آخر تضيفه ؟؟ فأجابه سامي : كلا لقد قلت ما عندي.

 

قال له الأستاذ: سوف نخبرك بالنتيجة بعد عيد نوروز؟؟؟.

 _______

 

عيد  النوروز: تحديدا في 21 اذار من كل عام وهو عيد كل العراقيين  ومناسبة حلول الربيع وعند الاكراد، يعتبر النوروز عيداً قومياً

 ويرون فيه كاوا الحداد بطل اسطورة كردية يرمز الى اشراقة شمس الربيع او الحياة الجديدة الخصبة التي تعتبر عيد النوروز عند الاكراد بعد ان ينتصر على الملك(الضحاك.)  

 

الدخول للتعليق