طباعة هذه الصفحة
الإثنين, 11 شباط/فبراير 2013

محاضرات في علم الشتيمة

  مديح الصادق
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

تابعت كما تابع آلاف المواطنين الكنديين قبل أيام من خلال شبكات التلفزة التي أعادت البث عدة مرات , والصحافة, وباقي وسائل الإعلام حدثا ملفتا للانتباه, مثيرا للمتابعة والاهتمام بحيث صار موضوعا لأحاديث في الشوارع, والمقاهى, والبارات, والأسواق, واقتطع المدرسون من أوقات الدروس ليشرحوا للتلاميذ النتائج الوخيمة التي ترتبت على تجاوز سائق باص لنقل الركاب على شاب من ركابه إذ أسمعه { شتيمة } ترتب عليها أن يخضع السائق لمساءلة القانون بتهمة جرح مشاعر إنسان, قد يلقى جراءها حكما بالسجن, أو تعويضا ماليا يدفعه صاغرا للمشتوم

إزاء كل ذلك سرحت في خيالي بعيدا في تأريخ طويل وعريق حافل بالشتائم في العالم العربي, خصوصا في العراق, أنواعها, أشكالها, تراكيبها, الاستعارة, الكناية, التورية, التشبيه, إلى غير ذلك من توظيف للحقيقة والمجاز في هذا الاتجاه, ابتداء بسيناريوهات برنامج فيصل الياسري الذي ينتهي كالعادة بالشتائم, والتلويح بالأكف, والتأشير بالأصابع الذي يحاكم صاحبه هنا بتهمة التهديد, مرورا بقلب الموائد على أصحابها في أروقة مؤتمرات الجامعة العربية, أو أعلى هيئة دولية في العالم, وقد يصحبها مغادرة واحد أو أكثر من الرؤساء لقاعة الاجتماع, ثم انطلاق تظاهرة شبابية عفوية, بلا لافتات إلى سفارة البلد الآخر واحتلالها, ثم إنزال علمه منها تعبيرا عن غضب جماهيري على شتيمة أطلقها رئيس الدولة الأخرى

والشتيمة في بلداننا حاجة يومية مثل ملح الطعام الذي تخلق به الإمبريالية أزمة في العالم إن هي أخفته ليلة او ليلتين, حين نمدح أو نتعجب من فعل نشتم, وحين نكره ونستاء من غيره نشتم,وقد نشتم أنفسنا لو اشتد الغيض فينا حد الارتداد على الذات, ولكل منا طريقة اختص بها, ورصيد له منها قد يزداد بفعل الاكتساب, وقد يضمحل بفعل صحوة الضمير, أو تحت تأثير سياقات مجتمع متحضر وجد نفسه ملزما باتباع ما يسيره من نظم وتقاليد

صديقي أستاذ جامعي في كلية يتخرج منها فنانون مبدعون يرسمون صورا لمستقبل سعيد للإنسان, يستقبل اليوم بسيل من الشتائم يفرقها هنا وهناك, للزوجة بعض قليل, وشيء منها للأولاد, والحصة الكبرى لمجموعة من الأصدقاء الذين لا مفر لهم مما يحضره لهم من مفردات قد يقضي الليل بحثا عنها في بطون كتب أو مذكرات, وحين يبخل عليهم بها تراهم ينظرون في وجوه بعضهم وكأنه باخل عليهم بما عودهم عليه من متاع يومي, إذا لم أشتم أحدا ينتابني إحساس غريب بأنها قد دنت ساعة الخلاص, هكذا يقول, هي عنده عادة إذن لا غير

في أسواقنا, شوارعنا, مدارسنا, في الحقول, والمصانع, على صفحات الجرائد, على الشاشات, والطامة الكبرى مواقع النت التي غدت ميادين للقتال الشرس غير المتوازن, الفاقد لكل مقومات الشجاعة التي تستدعي أن تواجه الخصم وجها لوجه, وحينها قد تتردد في الدلو بدلوك فتخلد للصمت, أو تتراجع خصوصا عندما تلتقي عيناك بمن أردت شتمه لتكتشف أن ما بينه وبينك أسمى من أن يباع بمفردات رخيصة لا تؤخر ولا تقدم ولا تسترجع لك حقا قد فقدت

وحين يكون خصمك مختفيا خلف شاشة صماء عديمة الإحساس والمشاعر فالساحة مفتوحة لك - بلا خجل أو استحياء - لتسطر عليها ما يحلو لك من أصناف الشتائم, فالمسكينة لاحول لها ولا قوة لا تعلم أن ما يسطر عليها قد تنتج عنه حروب أو سجالات, وقد تراق دماء

لماذا يشتم بعضنا البعض يا شرهان ؟ لم ينبس ببنت شفة ذلك الشرهان؛ بل مال قليلا في جلسته للخلف, وأشعل لفافة أخرى من تلك التي مازالت بين شفتيه, جال في نظراته بين وجوه الحاضرين لعله مقتنص جوابا في عيني شيخ حكيم, أو صبي موهوب, ولما لم يزاحمه في الحكمة غريم تحدث بالتفصيل

اسمع, يأيها الرجل المعلم غيره, الشتامون عدة أصناف, منهم من يفتقر في قاموسه للنظيف من الألفاظ, ولا يملك في خزينه من رصيد منها فتراها تتقادم إليه بسرعة البرق تلك التي تجرح المشاعر, وتفسد النفوس, وتوسع من دوائر الخلاف, وتضيع على قائلها الخيط والعصفور, فيخسر ما لم يكن آملا فيه الخسران, وقد يجني من ذلك مالا يسر النفوس, ويبهج القلوب, فيندم على فعله هذا بسرعة البرق ذلك لأنه لم يكن نابعا عن سوء نية أو خلل في القصد

والنوع الآخر ذلك الذي يبحث عن رد بديل فلم يوفق في العثور عليه إلا بإيذاء الآخرين - وإن لم يؤذوه - والشتيمة طبعا وسيلة جارحة من وسائل الإيذاء للآخرين لما تتركه من آثار سلبية في الخواطر قد يجد المشتوم إزاءها نفسه منساقا للرد بالمثل لتبدأ السلسلة من جديد ولا يوقفها سوى صحوة ضمير من أحد الطرفين, أو من كليهما, أو تدخل مثمر من أخيار لا يزالون شهودا على أن الدنيا باقية بخير

ومن الشتامين نوع ثالث مصاب بأكثر من داء, تفاقمت عنده روح الكره والعدوان لكل ما هو سوي, وجميل, وحتما هذا خلل نفسي يودي بصاحبه إلى التخبط في قدرته على التمييز بين الجميل وغير الجميل, بين الخير والشر, بين الصالح والطالح, وهو لا يملك ما ينفس به عن هذا الشعور, ولا المجتمع الذي يعيش فيه يولي هذا الصنف نوعا من الاهتمام لتوجيه هذا الزخم العدواني لديه نحو البناء والإبداع, وتلك حالة من حالات فقدان التوازن النفسي أولاها علماء النفس بفروعه وعلماء التربية, وعلماء الاجتماع الاهتمام المتزايد للوقوف على الدوافع والأسباب, ومدى تحكم عوامل الوراثة فيها, وما ترسخه ظروف البيئة المحيطة بهذا النوع من الناس من عادات في السلب أو في الإيجاب

أما وجهة نظري - أنا أخوكم شرهان - فأقول معذرة يا أحبتي, الشتيمة سلاح الذين لا قدرة لهم على الإتيان بالبديل النافع الجميل
وهي علامة مميزة لهذا الافتقار للفظ البديل الذي تزخر به مراكب اللغة من كل جنس ولون, فلنستبدل ما يوخز المشاعر بما هو قابل لأن يفي بالمطلوب, ولنتريث قليلا قبل إصدار الأحكام مصحوبة بما لا يطاق من حوشي الكلام, ومن لم يتمكن منكم من جمع قدر مما قصدت فسوف أدله على مصادر البيان, والبديع, وواحات البلاغة, وعلم الأسلوب, ولنتضامن في حملة واسعة نطالب بها مجامع اللغة بالعالم بشطب كل ما هو نابٍ من الألفاظ من المراجع والقواميس, ولنقم المعارض العالمية - مثل معارض اللوحات - لأنظف, وأجمل المفردات, وأكثرها تأثيرا في ديمومة الحياة, وفي بناء الإنسان

لنحرق كل قصائد النقائض بين الفرزدق وجرير, وما هجا به نفسه وأمه جرير, ولنبن جدارا عاليا في كل زقاق نعلق عليه بديلا عن فارغات الشعارات أجمل القصائد التي تتغنى بالحب, والحياة, والإنسان, فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان, ولنطهر قلوبنا, وعقولنا من أدران الضغينة والأحقاد, ونقتلع منها نهائيا ما لا يليق بنا مما اختزناه فيها من شتائم أو جافي الألفاظ, ألسنا نحن بني الإنسان ؟

أنهى خطبته شرهان والجمع له باهتمام منصتون فداعب خاطري حديث طري لأخي وزميلي أبي زينب { ييلماز جاويد } إذ قال :

اعتدت كل صباح أن أقصد بائعا للصحف كي أبتاع منه حاجتي من المطبوعات فألقي عليه التحية؛ لكنه لا يرد, فلم أنقطع عن إلقائها عليه كل يوم باستمرار وهو كعادته لا يرد, في حين يحضر في نفس الموعد زبون آخر لا يلقي التحية ويأخذ ما يريد وهويرمقني بنظرة استخفاف لكوني ألقي التحية بلا جواب ولا أنقطع عنها حتى نفذ صبره فهزَّ يدي - على طريقة العراقيين - حين يشعرون بجرح
المشاعر وقال معاتبا : أما مللت ياأخي من هذا { المعتوه } تلقي عليه التحية ولا يرد وأنت كل يوم تزيد فيها, فابتسمت بشفافية كي لا يفسرها استخفافا به - على طريقة العراقيين - لا يا عزيزي, أنت مخطئ فيما ذهبت إليه, فإن أراد هو أن يعلمني سوء الأخلاق فالأحرى بي أن أعلمه منها كل سامٍ ونزيه

اللهم طهر نفوسنا من كل الأدران, ونظف قواميسنا من سيء الألفاظ وما نشتم به أنفسنا والآخرين, واجعل حوارنا بعيدا عن { التواثي } وكاتمات الصوت, وأذهب عن نوابنا في البرلمان ما بجعبتهم من المفخخات, وأحزابنا أسكت عن فارغاتها ما يصم الآذان من أبواق
واجعل تحت كل لسان منا أبرة لعلها تخفف من جارح الألفاظ

الدخول للتعليق