سكنوا في الكويت وعملوا بالصياغة والميكانيك
أجرت «القبس» حواراً مطولاً مع طاهر جواد البغلي الباحث والمتخصص بالديانة المندائية، وهو أحد ستة أشخاص عرب تخصصوا في هذه الديانة، وفيما يلي الحوار:
«القبس»: هل تعتقد ان الديانة المندائية لم تأخذ حقها بالدراسة الأكاديمية؟
البغلي: الموضوع كان متداولا منذ فترة طويلة. فكون المندائيين ــ مشهورون لدينا باسم «الصابئة» أو «الصبة» باللهجة الشعبية ــ يعيشون في المناطق العربية، فقد كانت عقيدتهم وطقوسهم محل تساؤل الناس، أضف إليها رغبتهم في معرفة الأحكام الشرعية المرتبطة بهم كونهم أهل كتاب أم غير كتابيين. لذلك كاد تعامل العرب والمسلمين ان يتوقف عند هذا المستوى البسيط من التعامل معهم الذي وفر مادته المؤرخون المسلمون لولا بعض المتكلمين مثل الآمدي الأشعري الذي تعرض لعقائدهم من باب الحجاج الكلامي.
أما ما يتعلق بالبحوث الأكاديمية فقد قام المستشرقون بأبحاث أكاديمية مهمة بهذا المجال قبل أكثر من مائتي عام، اختصت بأصول الطائفة ولغتهم ومعتقداتهم وطقوسهم وتاريخهم ولا تزال أبحاثهم مستمرة الى الآن، أما الأبحاث الأكاديمية العربية فهناك عدة أبحاث حديثة لأكاديميين مندائيين أذكر منهم الدكتور الصديق صباح الدهيسي والترميدة عصام وهو رجل دين مندائي. كما ان هناك قليلا من الابحاث التي قام بها غير المندائيين من العرب تطرقت لأحكامهم الشرعية وللغتهم.
وانه من المحزن ان نجد التجاهل لتراث المنطقة من قبل اهلها بينما نجد باحثة انكليزية مثل الليدي دراور قد اقامت بين افراد الطائفة ما يقارب ربع القرن، قضتها بتكوين الصلات مع افراد الطائفة وجمع المعلومات وتوثيقها.
أماكن التجمع
{القبس}: كيف كانت بداياتك بالبحث بهذه الدراسة؟
البغلي: أدركت ان مجرد القراءة عن دين ما ليس بكاف على الحكم عليه حكما صحيحا، فلنتخيل ان تتخصص بالاسلام مثلا ولم تر بحياتك مسلما ولم تزر بلدا اسلاميا. لذلك قررت السفر لألتقي بالمندائيين. الا ان مكان تجمع المندائيين الاساسي هو جنوب العراق ومنطقة الاهواز، وباعتبار جنوب العراق منطقة خطرة لكثرة وجود العصابات، لذلك قررت الذهاب الى الاهواز مع احد الاصدقاء لالتقي برجال الدين لاتعلم منهم ما يتجاوز المكتوب، ولاكمال بحثي قررت ان اذهب الى منطقة جارمانا بسوريا وهي تضم بأغلبيتها مهاجرين عراقيين بسبب ظروف الحرب. واستمرت زيارتي الاولى اسبوعا قررت بعدها ان اقيم بين افراد الطائفة كي استطيع ان ارصد ليس فقط معتقداتهم الدينية الرسمية، بل معتقداتهم الشعبية الشفوية ايضا وعاداتهم وتقاليدهم لأصل الى جذورها الدينية، تيسرت لي هذه المهمة، حيث كانت بيوت المندائيين مفتوحة دائما لاستقبالي وحرصت على مشاركتهم همومهم وافراحهم واحزانهم. وكان احد اهم اهداف الزيارة هو توثيق الطقوس الدينية وملاحظة تفاصيلها التي كانت تكتب غالبا بشكل يشوش القارئ، مثل طقس التعميد «المصبتا» او «الصباغة» وطقوس الزواج المندائي. ومن خلال هذه الزيارة استطعت ان احصل على العديد من الكتب والمخطوطات القيمة التي لا تتوافر للقارئ بسهولة، حيث ان مجال توزيعها محدود كما ان اغلبها كان باللغة المندائية ولم يترجم بعد، لذلك حرصت على تعلم مبادئ اللغة المندائية لأتمكن من دراسة تلك المخطوطات. وقد كان لي خلال هذه الزيارة لقاء مع الدكتور صباح الدهيسي احد المتخصصين بالديانة المندائية والمقيم بالعاصمة البريطانية، وقد رتب لي كمال منصور رئيس الجمعية المندائية لقاءات مع شخصيات مندائية بارزة كان لها الفضل بأن تكشف لي الكثير من الغموض، مثل امين فعيل مؤلف كتاب قواعد اللغة المندائية والعضو بالمجمع اللغوي السرياني العراقي والذي تعلمت على يديه مبادئ اللغة المندائية وساهي الزهروني معلم اللغة المندائية. ثم طلبت اللقاء مع رئيس الطائفة المندائية الكنزفرة الشيخ جبار ستار لأحصل منه على مقابلات توثيقية تعبر عن نظرة المندائيين المعاصرة بالنسبة لعقائدهم وحينها قررت استغلال الفرصة لاجراء تحقيق معه نشر بـ «القبس» يوم الاربعاء الموافق 2010/3/31 ونشر بالخطأ باسم السيد محمد مهدي. هذا ولا تزال علاقتي مع أفراد الطائفة مستمرة. وأتذكر حين ذهبت الى متحف دمشق مع الأستاذ أمين فعيل واضع كتاب قواعد اللغة المندائية. وجدنا أحد القحوف (نوع من الأواني) الأثرية المندائية وعليه كتابات مندائية واضحة الا أنه كان مصنفاً بالمتحف كأحد التحف المسيحية اعتقاداً منهم بأن اللغة المكتوبة عليه هي اللغة السريانية. ورغم أننا قضينا يوماً كاملاً ونحن نسعى بين مسؤولي المتحف لاقناعهم بأن هذا القحف مندائي وليس سريانيا لكن دون جدوى. مع أن قيمة هذا القحف كانت ستزداد من الناحية الأثرية كما ان تحديد مكان اكتشافه بالضبط قد يضيف الكثير للأبحاث المهتمة بأصول المندائيين القديمة.
{القبس}: هل المندائية عبدة كواكب؟
البغلي: الكثير من الكتب. بل حتى مناهجنا المدرسية تشير الى الصابئة كعبدة كواكب، لكن الواقع مخالف لهذا، فالمندائيون يعتقدون أن الكواكب مخلوقات عالم الظلام، وهي مصدر للشر وليس الخير، لكن هناك من يعتقد أن هذا الخلط قد جاء بسبب وجود طائفة أخرى انتحلت اسم الصابئة وهي صابئة حران أو الحرانيون. وأنهم هم من كانوا يعبدون النجوم والكواكب وانتحلوا اسم الصابئة فقط لكي يعدوا كتابيين ويحق لهم دفع الجزية والعيش بسلام بين المسلمين. الا أني لا أرجح وجودها فما ذكر عنهم قليل ومنقول عن الخصوم وحتى الشخصيات التي يحاول البعض نسبتها الى صابئة حران هناك دلائل تشير الى أنها مندائية وليست حرانية. كما ان الأبحاث الأثرية بحران لم تسفر على حد علمي عن اكتشاف اثر للحرانيين. وعدم وجود الحرانيين لا يعني أن المندائيين كانوا يعبدون النجوم والكواكب بل على الأغلب أن هذا ما كان يشاع عنهم من قبل خصومهم كون قبلتهم وقت الصلاة هي الشمال ويستدلون عليه بنجم الشمال، أما النجم بحد ذاته فليس له قدسية عندهم ودوره لا يتجاوز دور الشمس كمساعد لتحديد القبلة لدى المسلمين.
{القبس}: ما حقيقة الديانة المندائية؟
البغلي: المندائية بلا شك دين توحيدي، وهم يعبدون الها واحدا يسمى الحي العظيم «هيي ربي» ومثلما نعلم، فالحي والعظيم من أسماء الله الحسنى. وخلوص توحيدهم واضح وجلي من مجموعة من البوث (الآيات) من كتابهم المقدس (الكنزا ربا) ترجمة بغداد.
«هو الملك منذ الأزل. ثابت عرشه. عظيم ملكوته لا أب له ولا ولد ولا يشاركه ملكه أحد، مبارك في كل زمان، ومسبح هو في كل مكان، موجود منذ القدم. باق الى الأبد، قال للملائكة كوني فكانت. بقوله ملائكة النور كانت».
ومن هذه البوث تنطلق عقيدة كل مندائي بتوحيد واضح لا يشوبه وجود مقدسات أخرى حيث يميز المندائيون وبدقة شديدة بين ما هو مقدس وما هو معبود.
{القبس}: ما الذي يميزالمندائية كدين عن بقية الديانات الإبراهيمية؟
البغلي: الديانة المندائية تعتبر ديانة توحيدية غنوصية (عرفانية) تعترف بالكثير من أنبياء الديانات الإبراهيمة مثل آدم وإدريس ويحيى وتشترك بينهم بالعديد من المعتقدات والطقوس مثل الصلاة والطهارة ويعتبر الإسلام هو أقرب دين من ناحية العقائد والطقوس للمندائية.
والعقائد المندائية كثيرة ومتشعبة إلا أن هناك تصورا عاما يجمعها وهو تصور الكون كله كصراع بين عالم النور وعالم الظلام وهو ليس تصورا ثانويا باعتقادهم بوجود إلهين إله نور وإله ظلام بل باعتقادهم ان ملائكة النور (الأثريين) الذين خلقهم الحي العظيم (الله) يحاربون ملائكة عالم الظلام (الشياطين) بعدة حلبات صراع آخرها حالياً هو العالم الأرضي وان النتيجة النهائية لهذا الصراع هو حتمية انتصار عالم النور على عالم الظلام.
والطقوس المندائية تتميز بأمرين مهمين. الأول وضوح رموز هذه الطقوس فالمندائي إذا قام ببحث يستطيع ان يصل من خلال النصوص الدينية نفسها إلى المعنى الكامن من وراء رمزية الطقس. أما الثاني وهو مرتبط بالناحية العقائدية فهو ان الإنسان من خلال ممارسة للطقس الديني فهو ينصر عالم النور على عالم الظلام وان أهمل فهو يعين عالم الظلام على عالم النور فدور المتعبد هنا ليس سلبيا تماماً باعتبار ان عبادته تفيد نفسه فقط، بل هو إيجابي ودوره وان كان صغيراً إلا أنه مهم كدور الجندي الواحد بجيش فيه آلاف الجنود.
{القبس}: كيف يصبح الإنسان جزءا من عملية الصراع بين عالمي النور والظلام؟
البغلي: يعتقد المندائي ان في الإنسان عدة عناصر بعضها نوراني وبعضها ظلامي. فجسد الإنسان صنع من قبل الكواكب السبعة وهي كائنات ظلامية لذلك نجد ان الجسد يحث الإنسان دائماً على المعاصي عن طريق الشهوات والغضب. وهناك الروح وهي التي نفخها به بثاهيل وهو أحد ملائكة عالم النور الرابع وهي تحوي عناصر نورانية لكنها ضعيفة لأن مرتبة بثاهيل بين ملائكة عالم النور ليست عالية لذلك كان لا بد من أن يكون هناك تدخل من عالم النور الأول لتسليح الإنسان بمعركته ضد عوالم الظلام فنزلت بجسده النشمثا (النفس) من عالم النور الأول.
{القبس}: وماذا يحصل بالنشمثا بعد وفاة الإنسان؟
البغلي: الديانات الغنوصية ومن بينها المندائية تعطي أهمية كبيرة للموت بل تعتبره حالة ولادة جديدة لذلك فلملاك الموت عندهم مرتبة عظيمة ويعتبرون ان لديه أسرارا نورانية مساوية لأسرار من وضع النفس (النشمثا) في الجسد.
والانسان حين يموت تنحل الرابطة بين الجسد من جهة النشمثا والروح من جهة اخرى، وتمر الاثنتان بمراحل المطهر، وهو اشبه بالصراط المستقيم عند المسلمين، حيث ان من عمل عملا صالحا يمر فيه بسرعة، حيث تحمله سفينة شامش الى آخر محطات المطهر خلال خمسة واربعين يوما فقط، بينما يمشي المخطئ على قدميه لفترة تمتد الى سنين وسنين طويلة مارا على محطات يعذب فيها عذابات تطهر روحه ونهاية رحلة المطهر او «المطراثي» تصل النشمثا الى ميزان اواثر (اباثر باللهجة المندائية الغربية)، حيث توزن النشمثا مقابل وزن «شيتل» اصفى الارواح الارضية، فاذا جاء الوزن مطابقا فمعنى ذلك ان النشمثا لم تعد تحمل عناصر ظلامية واصبحت مستعدة للعودة الى مكانها الاصلي بعالم النور الاول، واذا لم تمر فعليها ان تعود للمطهر لتتخلص من هذه العناصر الظلامية لتوزن من جديد. ويقوم المندائيون بطقس المسخاثا وهو طقس ديني مرتبط باطعام الناس لمساعدة النشمثا على المرور من المطهر والميزان بعد 45 يوما على وفاة الشخص.
{القبس}: عودة الى موضوع التعميد المندائي ما الذي يمثله التعميد بالنسبة لهذه الطائفة؟
البغلي: التعميد هو الطقس الاساسي لدى المندائيين، وقد اسماهم جيرانهم باسماء مرتبطة بحالة التعميد، فمثلا اسم الصابئة هو اما مشتق من الصب اي صب الماء وهو اشتقاق عربي، او من كلمة مصبتا وتعني التعميد بالمندائية، واللغتان على كل حال متقاربتان كثيرا كون كلتيهما لغة سامية. وايضا اكتسبوا اسم المغتسلة نتيجة هذا الطقس حتى الدراسات المسيحية تشير اليهم غالبا باسم الطائفة التعميدية. فقد اثار انتباههم كون افراد الطائفة المندائية يتعمدون مرارا وتكرارا بينما يكتفي المسيحي بعماد واحد، والعماد المندائي ليس طقسا دينيا يمارس للتعبد للماء، كما يعتقد البعض بل هو طقس احد شروطه الماء الجاري او كما يسمى باللغة المندائية اليردنا، حيث يعتقد ان هناك نهرا سماويا من عالم النور يصب الماء النوراني في الانهر الارضية ويجعلها صالحة للتعميد، وهذه الصفة تفقد بمجرد حفظ الماء بوعاء وايقاف جريانه فيصبح ماء ميتا وليس ماء حيا، وبالتالي لا يصبح صالحا للتعميد او اي طقس ديني آخر. والماء وان كان جزءا اساسيا من عملية التعميد الا انه يحتل واقعيا حجما صغيرا من الطقس، فطقس التعميد الذي حضرته امتد لساعات لم يكن القسم المختص بالتعميد او الغمر بالماء فيها يتجاوز الدقائق المعدودة، بينما امتد باقي الطقس لمدة ساعات خارج الماء. والواقع ان الافكار المسبقة كثيرة عن المندائيين، وهي غالبا ناتجة عن تخمينات اصحاب الديانات الاخرى.
المندائية في الكويت
قال البغلي: ليس عندي دلائل على استيطان قديم للمندائيين في الكويت مع قربنا الجغرافي الشديد من مناطقهم. وأظن أن السبب هو بعدنا عن النهر الذي يعتبر المكان المناسب لممارستهم للتعميد، لكن مع سهولة التنقل بالسيارات أصبح المندائيون يسكنون مناطق بعيدة نسبيا عن الأنهر لذلك جاء عدد منهم من العراق للعمل في الكويت بحرفتي الصياغة والميكانيك، لكنهم عادوا إلى العراق بعد تحرير الكويت، وهم يحملون ذكريات جميلة وحبا للشعب الكويتي. وللغة المندائية أيضا تأثير على اللهجة الكويتية فنجد كلمات مثلا كلمات مندائية مثل «اكو» بمعنى يوجد و«ماكو» بمعنى لا يوجد قد تسربت للهجة الكويتية وكلمة «طب» وتعني دخل و«امربرب» وتعني يكبر وينمو و«ناطور» وتعني حرس أو حفظ. كما ان المندائيين لديهم اعتقاد بأنهم استوطنوا في يوم من الأيام منطقة الصبية واكسبوها هذا الاسم إلا ان هذا الاعتقاد لا يتجاوز التخمين المبني على التشابه اللفظي.
القبس الكويتيه