المقدمة :
ان حالة العدمية تعبير فلسفي مَفاده ان العالم كله بما في ذلك وجود الانسان ، عديم القيمة وخال من اي مضمون او معنى حقيقي ، اما الوجودية تكرّس التركيز على مفهوم الانسان كفرد يقوم بتكوين جوهر ومعنى لحياته ، وبهذا فإن كاتبنا المقتدر اراد ان ينأى عن العدمية التي ترى في لا جدوى الحياة هدفاً ونتيجة في ذلك ، من خلال دلالاته الرمزية التي اعطت الدرس تلو الدرس عن معنى الحياة .
التحليل :
في البدء لم اقرأ لهذا الكاتب المندائي القدير الاستاذ القاص نعيم عيّال نصّار، سوى مجموعة قصصية واحدة ( امرأة على ضفاف المتوسط ) ، من مجموعة تضم ثمان كتب صدرت له تباعا جاءت تحت عناوين مختلفة ، النسخة الوحيدة التي جاءتني هدية من احد الاقرباء في السويد ، المتظمنة لثلاث قصص قصيرة مطولة عنونها بأسماء ( المساء الاخير ، امرأة على ضفاف المتوسط ، المتمردة ) .
يمتاز نتاجه القصصي بالحبكة الجيدة وبلغة بسيطة واضحة المفاهيم ، كلمات ذات لغة شاعرية راقية وجميلة ، كونه يعزف على وتر الحياة بكل عنفوانها وجبروتها المستمدة قوتها من واقعه المؤلم في بلده الام العراق ، تعابيرعن مواقف جادة صاغها في قالب انتقائي عكست قضايا مصيرية هامة ، لا تزال تشغل بال واهتمام كثير من الناس .
في محاولة جادة وجريئة كي تتماسك تجربته البسيطة والغنية الى تخطى الحواجز والحدود للوصول الى الحقائق الادبية بانعكاساتها المختلفة من خلال تلك الصور بدلالاته الرمزية المعبرة بأمتياز عما يدور في خلده كي تصل الى المتلقى على طبق من ذهب ، برسم لوحات فنية درامية للشخوص التي تناولها في كل قصة من قصصه الهادفة .
كان عنوان قصته الاولى ( امرأة على ضفاف المتوسط ) ياخذنا الكاتب الى حالة درامية مأساوية تكاد تؤرق الكثير ، في عالم لا يعرف غير لغة القوة والمصالح ، كانت ولازالت تعاني منها الاقليات الدينية والاثنية ، من قتل و خطف وتشرد على الهوية.
ينقلنا الى واقع درامي مؤلم متمثل بعائلة جزائرية مثقفة تنوي الهروب من بطش العناصر المتأسلمة والمتعطشه لسفك الدم ، خلال الحرب الاهلية التي قامت هناك ، التي تعكس بمرارة واقع حال العراق اليوم ، اتخذ الكاتب من هذه العائلة المُهددة ، ابطال قصته المتمثلة بالاب والام والبنت الجميلة ( خديجة ) بنت ثمانية عشر ربيعا ، البارعة الجمال كأنها ملكة من الملكات اللواتي يفزن في مسابقات الحسان العالمية كما يصفها الكاتب ، تروم العبور مع اهلها الى اوربا والى فرنسا بالتحديد وبجوازات سفر مزورة ، فتاة جميلة لتعيش وحيدة كيف لها التأقلم مع واقع جديد يختلف اختلافا كليا عن واقعها الشرقي المحافظ ، كيف تتمكن من العيش بعد ان اجبر اهلها على العودة عنوة الى البلد الام ، ولنزعة الاّنا السوداوية التي طغت على تفكير ضابط الجوازات الفرنسي المخادع بعد ان افتتن بجمال خديجة ، تتمكن هذه الفتاة الطيبة الصابرة بعد حين ان تصارع الزمن والمجتمع معاً ، بعد ان ملكت الثقة العالية بالنفس ، ان تعيش وتصل الى ما تريد وما تطمح اليه بعد كفاح شاق ومرير مع الحياة ، وشاء القدر مرة ثانية بلم شمل العائلة مجددا في مرسيليا ، تحظى بزوج حامل لصفات النخوة والشهامة والرجولة والوفاء تعيش معه بسعادة ونعيم ، اما صوت الشر والباطل صوت الخديعة الخاسر الوحيد في النهاية ، لان للحق جولة لكن للباطل جولات .
في قصته الثانية ( المساء الاخير ) نرى قد تحول الى مسار اخر مختلف ، بأمور جديدة تعبرعن متانة وقوة العلاقات العائلية في المجتمعات الشرقية خصوصا في موقع احداث هذه القصة في العراق بالعاصمة الحبيبة بغداد ، الذي يلعب الترابط الاسري الدور الكبير لروح المحبة والتاّلف والتعاون والانسجام والتسامح في الاختيار السليم بين العائلة الواحدة .
يتجه الكاتب لحالة الحب المفرط للشخصنة الذي يتحول الى منغص حقيقي لمجمل سير الحياة السعيدة المنتظرة لهما ، لوفاة جدة ( فيصل ) بطل القصة ، وتاجيل زواجة لسنة واحدة تورق حياة وكيان الخطيبةالمسكينة ( فريال ) التي تكن له كل الود والحب الاعتزاز والاعجاب .
ويطول الترقب الى اللقاء المعهود لارجاع الامور الى ما كانت عليه ، عبر لقاء يتم بين الطرفين في مكان هادىء في احد المطاعم الفاخرة في منطقة سدة الهندية الجميلة . نرى فيها حالة جديدة من التداخل الايجابي بين الاصول المجتمعية المكتسبة والاصول الموروثة.
ان للاقدار دور على حياة الناس تعكس مدى حب وعاطفة الانسان تجاه شخص عزيز علي قلبه فقده لسبب او لظرف ما ، لكن للحياة دور تلعبه مهما كانت تلك الوكبات والاقدار .
كما تناول في سرده القصصي عن حالة اجتماعية بارزة في كيفية الحفاظ على النسيج العائلي بلم الشمل الرتيب وهي صفة تلازم تفكير الانسان الشرقي في اي مكان يروم اليه .
ينقلنا كاتبنا المبدع نقلة نوعية الى فضاء الرومانسية والى العلاقات الحميمة التي تجمع الحبيب مع حبيبته لكن بالاطرالمعقولة البعيدة عن الشوائب الغزيزية ، الذي يسمى بلقاء العشاق ، كما عبر عنه بالقول ( ... لقد تبين ان فصل الغزل الذي يمارس خلال الجلسة لا يرقى بأي حال من الاحوال الى الهوس المجنون والشغف الذي لم تكن له حدود في ممارسة الجنس ..) ، لقد غابا في لحظات الحب ، في هذه اللحظات التي تحلق فيها بعيدا في عالم من البهجة والهيام .
ثم تناول العلاقات القلقة لكبار السن ، لزوج وزوجتة طاعنين في السن وحالة الصمت الرهيب التي انتابتهم طيلة تواجدهم في المطعم قالت فريال معلقة : ( انهما عاجزان عن التفكير ، لا يعرفان ما يدور حولهما ، لا يتوقعان وقوع حدث من الاحداث ليس لهما مشاعر واحاسيس او امنيات او تطلعات او رغبات ، لقد دمر الصمت كل شيء عندهما ، وهذا دليل حاسم على موت الحب ونشوء الكراهية بينهما ... ) ، فرغم اختلافه معها بالراي رد عليها فيصل بالقول: ( ان العكس هو الصحيح ، فالصمت هو اساس الحياة وهو الوضع المنطقي الواقعي الذي لا تعوضه وتعبر عنه الكلمات في حالة مثل حالة هؤلاء ، انه هو الذي يجعل الحياة اكثر اشراقاً ، فالنقاشات تثير كثيراًً من الخلافات التي تؤدي الى أحقاد وعناد وعداء وكل ما يعكر الصفاء ، فقد ساد اعتقاد عند الناس ان الصمت يمثل النجاة ، ومن خلاله يعود الانسان الى ذكريات جميلة او مُره قد مرت عليه في حياته ، وفيه النفوس البشرية صافية مثل صفاء ماء بحيرة هادئة التي لا تعكر صفاء مياهها الامواج ... ) ، هذه العلاقات الناجمة عن تراكمات زمنية طويلة ، عكس ما هم يشعرون به الان من حيوية وفتوة العلاقة وشغفها البهيج . ثم تأخذنا احداث القصة الى طبيعة النهج العشائري ورواسبه المتأصلة في حياة المجتمع الذي يستمد قوته وجبروته من واقع التخلف الديني والاستبداد السياسي بشكله الشمولي.
هناك ملاحظة على ما تطرق اليه كاتبنا المقتدر ، مجملها تحمل مزايا تربوية عميقة ، بدلالات رمزية سلوكية معروفة ، ذات سِمات حضارية كبيرة لان الثقافة لا تأتي من خلال ما نقرأ ، بل من خلال المعايشة والمثابرة ودقة الملاحظة والتعامل اليومي ، ، معززة بقوة البصيرة وقابلية التحمل ، وتغليب لغة العقل على لغة العاطفة. بهذه الصورة الجميلة ينتهي المساء الاخير للعاشقين لتبدء مرحلة جديدة في حياتهم هي مرحلة دخول عش الزوجية المنتظر .
اما في قصته الثالثة والاخيرة التي أخذت عنوان ( المتمردة ) : تدور احداثها حول شابة فرنسية تعيش في احدى القرى القريبة من العاصمة باريس ، تقيم علاقة صداقة ومحبة بينها وبين شاب ايطالي من روما مهنته فنان تشكيلي - رسام - يقابلها صدفة اثناء زياره قام بها الى هذه المدينة الجميلة لاطلاع على معالمها التاريخية والحضارية والسياحية وبنفس الوقت جند ريشته لعامة الناس كمهنة للحصول على الرزق الوفير ، بعد ان عرضت علية بطلة القصة ان يرسمها بريشته الذهبية ، بتطور العلاقة وتحولها من الاعجاب الى حالة حب ومودة ، وقد استمر هذا النسق الجميل ، ولكون منشاها في عائلة ريفية محافظة ، اضافة الى عملها مديرة فرقة موسيقية في كنيسة القرية ، لقد استمرت الزيارات بين الحبيبة الفرنسية ( فرانسواز ) وبين ( انطونيو) الحبيب الايطالي ، ( بعد ان توهج الحب الجميل بينهما توهجا اخاذاً في قلبي الحبيبين .. ) ، هذه العلاقة التي غيرت مجرى حياتها نحو الافضل والتي ارتشفت منها السعادة والراحة النفسية التامة ، بعد ان تأكدت ان تلك العلاقات والروابط مع حبيبها ومع اهله هي علاقات رحبة ، في نفس الوقت قرر الزواج منها ، معتقدا ان السعادة لا تحدد بمكان ، فالسكن لم يعد مشكلة بالنسبة لهما ان كان في فرنسا او في ايطاليا فالامر سيان ، ان توثيق العلاقة والمحبة بينه وبينها من جهة وبينه وبين افراد اسرتها من جهة اخرى وذلك من اجل ان يحبهم ويحبونه فهذه هي غايته وهدفه المرام من زواجه ذاك .
كيف انه باع لوحاته الفنية لحاجته الماسة الى المال بعد ان عرف ان لوحاته لا يمكن ان يعوضها مال الدنيا كلها ، انها كنوزه التي يفخر بها ، حين يقول الى زوجته : ( لقد اصبت بكاّبة قاتلة بعد ان توقف نشاطي الفني بسبب من ضياع ثروتي .. لكن يجب علي أن أعود الى سابق عهدي .. فأمارس نشاطي من خلال العمل الدائب والجهد المتواصل الواسع دون كلل او ملل ..) .
لقد لعب مع زوجته الدور الكبير في تعليم بناته وتغدية حسهما الفني منذ نعومة اظفارهما في الاستماع الى الموسيقى كما تعلُم فن الرسم .
لقد تطرق كاتنبا المبدع الى حالة مهمة هي العمل ، لان فقدان العمل اي عمل معناه الموت البطيء ، كما فكر انطونيو بانه يعمل فانه موجود وعضو فعال وعامل في المجتمع ، فهو رسام بورتري ، وقد عرف في مثل هذا اللون من الرسم في رسم وجوه الاشخاص بابداع منقطع النظير .
كما تناول مسألة مهمة وهي كيفية ادخال البهجة والطمأنينة الى العائلة الواحدة ، الى نفس الزوجة والابناء ( تيريزا و برجيتا ) عندما يذهبون في ايام الاحاد والاعياد .. وفي المناسبات الخاصة للمشاركة في التراتيل الدينية.
ينقلنا المؤلف القدير الى التربية الاسرية للفرد ومدى تاثيرها على السوك والتصرف وهذه الحالة تعتمد على التعاون الاسري وهو ما يسمى بالعامل التربوي السلوكي لان النمطية الواحدة او الطرفية تؤدي في النهاية الى تمرد الفردعلى واقعه وانعزاله ،، بالتالي يصبح لقمة سائغة لواقع لم يألفه من قبل ، وبتاثير العادات والتقاليد القديمة الموروثة التي تربت عليها هذه العائلة المحافظة منذ قرون .
كما تطرق في مجمل سرده للاحداث المتعاقبة في القصة على العلاقة العائلية في المجتمع المتحضر ،الذي تنظوي تحت يافطة لا فوارق طبقية او عمرية عند الاختيار ، الميزة الوحيدة ان يكون الفرد ذي مكانة علمية او فنية او اجتماعية ويلعب دور اساس في بناء وتطوير المجتمع وليس فوقه .
ان تركيز الكاتب على المفاهيم الثقافية والتربوية في التعلم ، والبحث عن المعرفة والاستفادة من عصارة ما نقرأ ، هي مغزى ودلالة قصته هذه التي يرى فيها كما ورد على لسان بطلته ان على الانسان أن يقرأ اي شيء يقع بين يديه في اي مجال كي ينتفع منه ولكي يكون له شأن حين يتبادل الاحاديث مع غيره في مجمل القضايا الفكرية والاجتماعية ، كذلك الرابطة الاسرية ، رابطة مقدسة يتطلب الالتزام بها مهما كانت الخلافات او الاختلافات في المبادىء والاراء ، ان طموح الانسان في الوصول الى غاياته النبيلة بالصبر والمثابرة والعمل الجاد المثمر ، في تلافي العقبات برحابة صدر ودون كسل او مراوغة او تخاذل ، للوصول الى الهدف المنشود وتحقيق الاماني السعيدة في الحياة ، لارضاء الذات وارضاء من حوله وهذه هي اجمل الغايات ، دمتم بخير .