سأحاول في هذه المقال الاجابة عن سؤال مفاده (( هل ان اعداد رجال الدين المندائيين في المرحلة الراهنة يتناسب وتحدياتها ؟؟؟ )) لقد دار هذا السؤال في خلدي في ضوء الطراسة الأخيرة لرجل الدين المندائي الترميذا أياد لعيبي والتي جرت مراسيمها في سدني ، لكن قبل أن أستطرد في الحديث لابد من الاشارة الى اني لا أريد في هذا المقال الانتقاص من مكانة أي من رجال ديننا الأفاضل، فجميعهم من أنساب مندائية رفيعة، وغالبيتهم ممن يتسمون بالخلق الرفيع والتواضع ، ويحاولون بكل ما أوتوا به من قوة لخدمة ديننا المندائي العتيد، وكل حسب اجتهاده .
قبل أكثر من سنة قدمت مقترحاً للمجلس المندائي في أستراليا، أثناء احد اجتماعاته، ركزت فيه على ضرورة عدم طراسة أي رجل دين مندائي جديد في أستراليا، حتى ان توفرت فيه كل الشروط الدينية، الا بعد اجتيازه اختباراً يقوم فيه المرشح بالقاء محاضرة عن موضوع اجتماعي، والافضل ان يكون عن الشباب ومشاكلهم، باللغتين العربية والانكليزية ، على ان تلقى هذه المحاضرة أمام لجنة من ذوي الاختصاص وتضم بين اعضائها بعض الشباب، فان نجح المرشح يصار الى طراسته ، وان لم ينجح يعطى فرصة أخرى لتلافي الأخطاء وتقديم محاضرة بشكل أفضل . وكان السبب في تقديم هذا المقترح ، هو وجود ثمانية رجال دين في أستراليا يقومون باجراء الطقوس، وهم أكثر مما نحتاج اليه حالياً ، اذاً ليست هنالك من ضرورة للاستعجال باجراء مزيد من الطراسات والتريث بعض الشيء ، لأن ما نفتقر اليه هو ليس رجال دين لاجراء الطقوس، بل رجال دين يستطيعون كسب الشباب .. دغدغة مشاعرهم ... التحدث بلغتهم ... سبر أغوار عالمهم ... جمعهم ... دراسة مشاكلهم ... تقديم الدين اليهم بشكل ممتع مع عدم التجاوز على مبادئه ...الخ، فأخبِرتُ بأن هذا الأمر متروك لرجال الدين، وفي النهاية مات المقترح ولا حياة لمن تنادي .
لقد قلناها مئات المرات بأننا لم نعد في العراق وايران ، وعليه فان أساليبنا في كل شيء، وبضمنها مراحل اعداد رجال الدين ينبغي أن تتغير بأسرع ما يمكن، لكي نُضَيّق الهوة بين الماضي والحاضر ... بين القديم والجديد ... بين جيل الأجداد وجيل الشباب . انه الجيل الجديد يعيش في مجتمعات غير مجتمعاتنا الأم، ويتحدث بلغة غير لغتنا ككبار ، فكيف اذاً يمكن أن نتفاهم مع هذا الجيل ونحن نتحدث بلغتين مختلفتين ؟؟ ، فان كان من الضروري على الأب والأم من تعلم لغة أبنائهم، فأن هذه الضرورة تتضاعف بالنسبة لرجل الدين فهو القُدسيّة ومعانيها، وله تأثير يفوق تأثير الآباء في ايصال القيم الدينية الى قلوبهم وانتشالهم من المخاطر والضياع المحيق بهم وبدون ذلك فان المندائية زائلة لامحال ان عاجلاً أم آجلاً .
أقولها وبدن مبالغة أو محاولة للتجني على أحد، ومع احترامي الشديد لجهود الكثيرين من الغيارى من المندائيين الذين يبذلون أقصى ما بوسعهم لخدمة أخوتهم في الدين، بأن رجال الدين المندائيين الحاليين بأفكارهم وأحاديثهم وطروحاتهم ومواعظهم أصبحوا بعيدين عن جيل الكبار، وهو الجيل الذي يتحدث بلغتهم نفسها، فتصور عزيزي القاريء مدى بعدهم عن جيل الشباب !!! أنا شخصياً التقي بأعداد كبيرة من الناس وأنقل لكم ما أسمعه منهم ... فهم يقولون بأن محاضرات رجال الدين وعظاتهم ليس فيها الا الروهة صعدت والروهة نزلت ... واننا نعيش في عالم زائلٍ عالم فانٍ كله خطايا وآثام وكلما طال عمر الانسان زادت خطاياه وآثامه ... وعلى ذكر ذلك أنا دائماً أُردد في بيني ونفسي (( سعيد الحظ مَنْ يموت بعد ولادته بشهر واحد فقط لكي لا يرتكب الأخطاء فيذهب مباشرة لعالم النور)) وكأن ديننا هو دين موت وليس دين حياة فهل ديننا هكذا حقاً بينما جميع الأديان تدعو للتفائل وحب الحياة ، وفريد الأطرش منذ اربعين عاماً ونيف ينشد بأعلى صوته قائلاً (( الحياة حلوة بس نفهمها ...الحياة بسمة محلى انغامها ....الخ )) وكان من واجبي أن أخبر رجال الدين بكلام الناس هذا ... فقالوا لي مستعينين بأغنية المطرب اللبناني جورج وسوف (( كلام الناس ما بيقدم ولا يأخر... كلام الناس ملامة وغيرة مُش أكثر )) .
بعد افتتاح مندي الكنزفرا دخيل (شافق هطايي نهويلي ) في ليفربول / سدني ، استبشرنا خيراً بأننا سنجمع المندائيين وسنأخذ بيد الشباب، وكان الحضور يسر القلوب، فالقاعة كانت تكتظ بالمندائيين من الجنسين ومن الجيلين، لكن بعد مرور سنة قَلّ العدد الى الربع . أما عند اجراء مراسيم طلب الرحمة لمن غادرونا الى العالم الآخر في المندي أو في أية قاعة أخرى، فاني أنقل لكم الصورة الآتية : لو فرضنا ان القاعة كانت تضم خمسين مندائيا فبمجرد ملاحظتهم بأن رجل الدين يتهيأ للصعود الى المنصة لالقاء حديثه أوعظته بهذه المناسبة، نجد ان اربعون شخصاً منهم يغادرون القاعة حتى ان وصل بعضهم الى اليها قبل دقائق معدودة، ولا يبقى فيها الا المقربين من ذوي المتوفي . لقد اخبرت رجال الدين بهذه الظاهرة وطلبت منهم دراسة اسبابها ووضع الحلول الناجعة لها لكن دون جدوى ، والثمن هو ازدياد اتساع الهوّة بين رجال الدين والمندائيين من الجيل نفسه، فكيف اذاً هو حجم هذه الهـوّة بينهم وبين جيل الشباب ؟؟؟ بطبيعة الحال أنا أعرف أسباب هذه الظاهرة ومنها : ان رجل الدين عندما يتحدث فانه يسهب بالحديث الذي قد يتخطى في معظم الأحيان النصف ساعة فضلا عن كونه يتحدث بمواضيع مكررة وقد لا تمت أحياناً بصلة للمناسبة، بل انها تُكَرّه الانسان بالحياة ، وهذا تأكيد على ما تحدثت عنه قبل قليل .
ان رجال الدين والقياديين في الطائفة والقيمين على أمورها ان لم يتمكنوا من فهم لغة الشباب، وسبر أغوار عقولهم، واستيعاب مشاكلهم، والدخول الى عالمهم الذي هو غريب عن عالمنا، بطريقة أو بأخرى فاننا سنفقدهم لا محالة . أثناء هذه الطراسة ... بناتي ذهبن عدة مرات لمشاهدة طقوسها ومراسيمها وعند عودتهن الى البيت اخبرتني احداهن Dad... do you know whats going on during trasa, the steps of trasa and what do they mean ??)وترجمة سؤالها هو: هل أنت تعرف ماذا يجري أثناء الطراسة ... ما هي خطواتها وماذا تعني هذه الخطوات ؟ قلت لها أنا أعرف 80% منها، قالت لكننا كشباب لا نفهم ولم يشرح لنا أي من المسؤلين عنها شيئاً، فنحن بما معناه ـ كالأطرش في الزفة ـ نذهب لنلتقي بأصدقائنا المندائيين ونستمع الى المغنين فقلت لها هذا أحسن من لا شيئ ومعاناتك هذه معاناة كل المندائيين من جيلكم فيا حسرتي عليكم .
خير ما أختتم به مقالي هذا هو فلم أمريكي شاهدته على شاشة التلفزيون، أسمه ((Sister Act ))، تدور قصته حول مغنية استعراضية أمريكية سوداء البشرة تشاهد عصابة تقتل شخصاً بأم عينيها ، بدأت العصابة تلاحقها لتقتلها كي لا تكشف سرهم ، أخبرها رجل البوليس بأنها يجب أن تختفي لحين القبض على أفراد العصابة، فأخفوها في احدى الكنائس والبسوها زي الراهبة . كانت رئيسة الراهبات انسانة متزمتة ... شديدة ...صارمة في تطبيق لوائح الكنيسة وقاسية في الوقت نفسه، كان أداء الكنيسة ضعيفاً فكان لا يحضر أثناء القداسات الا بضعة أشخاص لايتجاوز عددهم عدد أصابع اليد، أما فرقة التراتيل الدينية ( ينبغي علي أن لا أقول أغاني دينية لأن هذا حرام في ديننا ... لقد ارتكبت جرماً يوماً عندما كنت عريفاً لحفل افتتاح مندي الكنزفرا دخيل فقلت فقرة الأغاني الدينية عوتبت بعدها بشدة لهذا الخطأ الرهيب)، نعود لقصتنا لقد كانت فرقة التراتيل الدينية مؤلفة من راهبات غير مدربات، واحدة تجر بالطول والأخرى بالعرض ، وبعد معارضة شديدة من مديرة الدير المتزمتة تم تكليف الراهبة المتخفية، وهي المغنية الاستعراضية، بالاشراف على هذه الفرقة، فقامت بتدريب الراهبات المنشدات بطريقة عصرية، وبتناغم رائع بين أصوات القرار والسوبرانو، واسلوب التوزيع الموسيقي، والحركات الاستعراضية المصحوبة بالرقص وهز الاجسام، والتحرر المطلق من كل القيود التي كانت مفروضة سابقاً أثناء الأداء أمام جمهور الحاضرين، فلاقت استحسان الجمهور، حثت الراهبة المتخفية جميع الراهبات على الخروج الى المجتمع المحيط بالكنيسة والتحدث مع الناس والمساعدة في حل مشاكلهم ... التقن بالشباب ومزحن ومرحن معهم .. قمن بتنظيم حملات لتنظيف الحي والاماكن المحيطة بالكنيسة، فضلا عن أنشطة متعددة خرى ، وكل ذلك لم يغير من توجهات المجتمع نحو الكنيسة فحسب، بل حتى مديرة الدير أو الكنيسة المتزمتة تغيرت كلياً، واصبحت تشارك مع بقية الراهبات، وصارت تكن للراهبة المتخفية وداً واحتراماً كبيرين بعد ان كانت تكرهها . بعد كل هذه الجهود تزايدت أعداد الحضور للكنيسة أثناء القداسات ... ولم يجد الحاضرون مقاعد للجلوس، فكانوا مسرورين بوقوفهم، وبينهم اعداد كبيرة من الشباب ومن مختلف الاعمار، جميعهم مستمتعين بما تقدمه هذه الراهبة المتخفية والفرقة المرافقة لها من أغانٍ حركات استعراضية ، علماً بأنها لم تخل بالمباديء الاساسية للكنيسة من اجلال وتكبير بالمسيحية والسيد المسيح أثناء غنائها، لدرجة ان البابا في نهاية الفلم حضر خصيصاً احدى القداسات، فقام بالتصفيق الحار لأداء هذه الراهبة العصرية. بعد القبض على أفراد العصابة ونالت هذه الراهبة المتخفية حريتها فضلت البقاء بالكنيسة والعمل مع كادرها .
ان هذه الخاتمة لها دلالات كبيرة، أرجو ان نستفيد منها جميعاً وبخاصة رجال ديننا الأفاضل ، اذا اردنا أن نكسب شبابنا وعدم خروجهم الى المذاهب والاديان اخرى، فدينهم العظيم أولى بهم، وهم الخميرة التي تضمن بقاء هذا الدين نابضاً بالحياة. وما ينبغي الالتفات اليه: هو ان الراهبة المتخفية المجددة أعلاه لم تغير من الدين المسيحي، بل غيرت من أسلوب تقديمه للمجتمع فقدمته يطريقة عصرية تتلائم والتطور الحاصل في المجتمع وبشكل استمال عقول الشباب فكسبتهم اليه . أما الآن فأترك الاجابة عن السؤال المطروح في مقدمة الحديث الى حضراتكم وهو : (( هل ان اعداد رجال الدين المندائيين في المرحلة الراهنة يتناسب وتحدياتها ؟؟؟)).. شكراً لكم أحبابي على مواصلة قراءة هذا المقال حتى النهاية .