كان لعمالنا في محل شارع فلسطين خلال التسعينات، صديق شاب من عائلة بصرية مرموقة وميسورة، أسمه ... علي.
له أخ ثانٍ متدين يعمل طبيب بالمستشفى التعليمي بالبصرة، وهو الوحيد الذي يسكن في بيت العائلة الواسع هناك، بينما انتقل أهله لبغداد عند اشتداد القصف الإيراني الهمجي على (بصرتهم) في منتصف الثمانينات، حالهم حال الكثيرون غيرهم، ليسكنوا بالإيجار في منطقة (زيونة).
وهكذا ... فالزمن دارَ وقسي عليهم، خصوصاً بعد أن تركَ الأب مصالحه وارتأى عدم العودة للبصرة. الجميع أحسّ بالاستقرار ببغداد لكنهم لم يتفقوا رأي واحد بخصوص بيع بيت البصرة.
الأب نوع خاص جداً، لا يقيم علاقات مع الناس، ولا يزال يعيش حياته العسكرية قبل التقاعد، ويحاول عسكرة بيته المتكون من زوجته وبناته وأولاده وتحويله لوحدة عسكرية، فرفض الجميع ذلك فصار هو بوادٍ وهم بوادٍ ثانٍ، وغلب المزاج المتعكر بالبيت ليتسبب بأن (يهجج) ابنه (علي) من الصباح حتى المساء !
هوايات الأب تجتمع كلها بهواية واحدة فقط، جمع الطوابع، فمنذ أن كان في البصرة أيام العز كان لا يدخر مالا أو جهداً في الحصول على أنفس (سيتات الطوابع) وسخر كل جنوده ومعارفه بجمعها، وقام هو بكل حرص وتأني وذوق بتبويبها، لكنه كان لا يسمح لبشر، ليس مشاهدتها فحسب وإنما حتى الاقتراب من غرفة مكتبه حيث تغوص هذه الطوابع في ألبوماته، منذ أن جلبها من البصرة خشيةً عليها من القصف، مثلما جلب معه بدلته العسكرية النظيفة المكوية !
ربما بين هذه الطوابع ماهو نادر جداً اليوم
يقول (علاوي) أن هواية أبيه تمتد الى فترة شبابه حين كان يدرس بكلية الأركان بانكلترا، وهو لا يزال يحتفظ بعلاقة مع جمعيات حفظ الطوابع حول العالم التي بدئها هناك، وتقدر قيمة بعض طوابعه الأجنبية النادرة (منفردة) ببضعة ألوف من الدولارات أو ربما أكثر، وتحاول ـ يقول علي ـ بعض قاعات المزادات العالمية لحد الآن شراءها دون جدوى، فهو على طوابعه (قافل).
ويبدوا أن (علي) قد ورث هذه الفطنة والموهبة ولكن بشكل آخر، فقد لجئتُ إليه كثيراً بتصميمات بعض الحلي لورشتنا بشارع النهر، وكانت له لمسات فنية مميزة.
وصادف أن كانت له قريبة تسكن بجوار محلي بشارع فلسطين وتعيش مع ابنها المتزوج وهو كان الوحيد الباقي على قيد الحياة معها، فقد (فلتت) هذه السيدة في عام 81 حين أغارت طائرة إيرانية على بغداد ثم أصيبت ليقوم طيارها بالعودة بها لكن ولثقل حمولتها من قنابل أضطر لتفريغها، فسقطت على بيتها في منطقة الضباط وأحالته بساكنيه (ماعداها) لتراب، وعوضها الرئيس (صدام حسين) في وقتها بمنحة وأرض هي المجاورة لمحلي، ولكونها مهندسة معمارية وخريجة لندن، بنَت من تصميمها دار بطابق علوي لها وسفلي زوّجتْ فيه ولدها الوحيد الذي كان عند الحادث يدرس الهندسة بكندا، ثم عاد خلال بداية حرب إيران بعد حادثة والده وأشقاءه بهجرة معكوسة نادراً ما يفعلها (عاقل)، والأدهى أنه ترك الهندسة وتطوع بالجيش ووصل خلال إحداث قصتي هذه في منتصف التسعينات إلى مقدم ركن آمر لواء حرس حدود.
وكنت كلما أزورهم يدهشني هذا التصميم الانكليزي الرائع لبيتها بكافة مرافقه، حتى يبدو لك انه بيت خشب من الريف الانكليزي وقد بُني بطابوق وكونكريت عراقي !
(علي) له الاستعداد بالعمل بأي مهنة شريفة تدر المال عليه، حتى كان أحياناً يساعدنا فيما لو تغيّب أحد عمالنا مقابل أجر معقول، وما كنت أتردد بفتح قاصة المحل أمامه لشدة ثقتي بتربيته وأخلاقه.
وحين جاء يوماً لشراء نيشان بسيط بعد أن وجد بنت حلال قنوعة وبنت خير، دون تردد قلت خذ ما تحتاج وافتح لك صفحة بخط يدك وسدد براحتك فأنت تستاهل كل خير، وفعلاً ألتزم وبدأ يسددني من خلال أعماله الحرة.
في تلك الفترة بدأتْ (جحافل) العراقيين تهجر البلد، فيأتي يستدين مني مبلغ ويشتري أثاث بيت ويقوم بتصريفه بسعر أكبر بقليل من الصبر وبكثير من العلاقات بمزاد كهربائيات ومزاد أثاث وسجاد ... وهكذا.
من هذه النقطة تبدأ قصة (عليوي) ... حيث جاءني يوماً بعد غياب بسيارة آخر موديل، وحقيبة دولارات (عامرة) ...
ـ علاوي سرقت بنك، لك متسويها ؟
ـ أبو هاني هسة أحجيلك بس أولاً خلي أسدد ديني، وأريد أحلى طخم وسيت بتوت لهيومي.
شرح لنا كيف أنه اشترى بيت (شلع) بالكرادة، فلفتت نظره سجادة إيرانية مترين بمتر، ولشدة فطنته وخبرته المتراكمة، عزلها بمكان أمين لحين تصريف بقية البضاعة ثم طلب من (صديقه الحجي) تاجر السجاد أن (يـُـقـّيمها) وأخبره أنها تعود (للصائغ عماد المبارك) وهو يريد (التقفيص) عليه !
فأرسل (الحجي) معه أحد العمال ليراها فعاد وهمس بأذن (الحجي) ليذهب (شخصيّاً) على الفور لتقييمها وليُخبره بأنه سيُموّل أي مبلغ يُطلب منه أو أن يذهب هو لإقناع مالكها، حسّ (علي) بأن السجادة (لكطة) وذات قيمة أكثر بكثير، فناور معه وترك الأمر للمفاوضات.
وذكـّرني هنا، بأنه قد جاءني يوماً وأخبرني بهذه الحكاية واعتذر لإشراك اسمي بصفقاته، وقد قبلت إعتذاره بوقتها وقلت له مازحاً (عود من تربح بالنص).