هاهو الخريف قد لاحت بواكيره بالأفق ، طارقاً الأبواب بأجوائه المُتقلبة و صوره المتناقضة التي لا يماثلها سوى أخلاقيات السياسيين الجدد بأنتهازيتهم و تلون أمزجتهم . مُعلناً نهاية أيام الصيف الهادئة الصافية و شمسها الذهبية الساطعة التي تذكر العالم دوماً بوحدانية الحقيقة ، ممهداً لغضب الطبيعة القادم مع شتائها الأدهم الكئيب بأمطاره و زوابعه العاتية ... في هذا الوقت من كل عام و حسب ما أعتقده أسلافنا من قدماء العراقيين تبدأ مراسيم وداع الأله الرمز و الأبن البار لأرض الرافدين ، اله الخصب و النماء (تموز) ، الذي أختطفته عفاريت الظلام الى العالم الأسفل ، ليبقى هناك نصف عام كامل ، يصيب خلالها الحياة الركود و الجمود مع حلول القرّ القارس ، التي تكون عواصفه بمثابة رسول شؤم قادم من عالم الموت يأتي منذراً متوعداً يحيل الوجوم و الدموع بدل الأبتسامة و الفرح . و ليعلن أهل الرافدين مع قدوم تلك الطلائع طقوس الحداد على ألاههم المحبوب ، متمثلة بأرتداء أثواب الحزن الحالكة الممزقة و الملطخة بالطين ، يصاحبها البكاء و العويل لما سيصيب العالم جراء تلك الفاجعة ، معلنين بداية المسيرة الأليمة من هذه السلسلة التراجيدية الغريبة المليئة بالمعاناة و المآسي و الآهات ، أستمرت بدون أنقطاع منذ ذلك الوقت و حتى وقتنا هذا ، ضحيتها و بطلها الأول شعب العراق المظلوم .... هكذا كنا و هكذا كان هذا الشعب منذ أن خلق و حتى يومنا هذا قد تجسده شبح الموت .
ياترى أي قدر عجيب هذا الذي يجعل من شعبٍ بأسره و على مدى تاريخه الطويل أن يُجبل على الأسى و الألم ، و أي سر ذلك الذي الصق بهذا الشعب .... فحتى أفراحه حزن وأغاني أعراسه وجع و أمل ولاداته بؤس ... فمنذ أن فتحت عيوننا على هذه الأرض ونحن لا نرى لا نسمع لانقول غير الحزن ، حتى غدت أفراحنا أن زارتنا يوماً و لم يكن بين ثناياها شيئاً من رائحته كأن لاطعم لها ، وأصبحت ضحكاتنا أن مرت على أطراف شفاهنا ولم ترافقها بضع قطرات من الدمع فهي لاتغسل شغاف القلب من الهموم ، فيالها من أحجية أن يكون الألم فرحاً أو الفرح الماً ... كيف لا ومنذ الأزل و شعب الرافدين لا يتلقى سوى النوائب و المُلمات ، حتى كثرت جراحه و أستحال أحصائها ، وتقيحت حتى لم يُعد يُعرف كيف ستندمل ، هذا أذا قدُر لها ذلك يوماً ، و لم يتبقى في القلب المُتفحم لهذا الشعب موضع لطعنات أو جروح جديدة ، فقد غدت النصال تتكسرعلى النصال ... كما قال (المتنبي) العظيم . فأين أنت منا يا (تموز) ، وها أنت تفارقنا مجدداً لتبعد مرة أخرى عنا حلم الحياة و الحياة الحلم .
آه يا (تموز) ...هل يأتي يوماً وينسى الناس ذلك الأله القتيل بميتته المأساوية تلك ، التي لهولها رسمت المسار الأبدي لمصير شعب الرافدين ؟ أم سيبقى ذلك الطوق يخنق أعناقنا لتكون الفواجع حداً فاصلاً بين الولادة و الرحيل .... فهل يكون الموت هو الوجه الآخر للحياة رغم قساوته ؟ أم أنه أستعداداً لأنبعاثها مرة أخرى بعد خروجها عن رتابتها و نمطيتها؟ لذا كان لابد من التضحية ، و أن كان الضحية الاهاً ، كي يثبت أنها لابد أن تنتصر في النهاية ، و تبعث من جديد وهي أكثر شباباً و حيوية ... فياترى هل يكون شعب العراق هو الضحية أبداً لحياة الآخرين ؟
لماذا أنت يا (تموز) من دون الآلهة ليس لك أن تكون خالداً أبداً لتخلد معك أبدية الحياة في أرض الرافدين ؟ أم لأنك أبن هذه الأرض أريد حتى الأنتقاص من الوهيتك . و لماذا رضيت على مدى عمر العراق بالنقيضين الأبديين ، فلا أنت خالداً أبداً لتزدهر معك رحاب هذه الحياة ولا أنت بميت أبداً لتترك مع شعبك شرور هذا العالم . و أذا كنت يا (تموز) قد رضيت بنقيضي الوجود فلمذا تمسك شعبك بنصفك الميت وتناسى الآخر الحي ؟ فهل لديك الجواب أم لعلك رضيت بهذا القدر لتكون مع هذا شعب المفجوع رمزاً للمظلومين و المضطهدين في هذا العالم المجنون العائم على دموع البائسين ؟ فما أعجب ذلك .... وها أنت اليوم تغيب عنهم مجدداً ليرتدي العراقيون ثوب الألم الذي لم يعد يفارق أجسادهم بعد أن أستحال خلود الحياة ومباهجها التي كانوا يُمنون النفس بها الى خلود الأسى و الكدر ... فهل ستنهض يا (تموز) يوماً نهضتك الأبدية من سجنك القسري ؟ أم ستبقى مُكبلاً بسلاسل الظلم و القهر حبيس عالم الظلام رابطاً مصيرك بمصير أبناء شعبك ؟ وهم يعيشون من ظلم لظلم و من خراب لخراب و من بؤس لبؤس بعد أن أنقظتّ عليهم عفاريت العالم الأسفل التي بُعثت من جديد لتختطف أرض النهرين الخالدين لعوالم الهمجية والتخلف و الطائفية اللعينة ، فلم يعودوا يملكون اليوم بعد كل الذي لاقوه ويلاقوه غير النظر اليك وأنتظار قدومك ، لتعيد لهم نفحة من نسمات الأمل التي نسوا برودتها ، و بعضاً من كرامتهم المسحوقة بأقدام وفتاوي عفاريت التخلف ، و شيئاً من البسمات التي أفتقدتها براءة الطفولة.
أنهض يا (تموز) فقد جفت دموعنا و غدت مُقلنا مثل حبات رمل في صحراء قاحلة .. أنهض يا (تموز) فقد طال نواحنا وبُحت حناجرنا و يأسّنا من شكوانا التي أصّمت آذان الكون ... و حتى يأتي يوم أنعتاقك الذي هو عرس كل العراقيين ، ليس بأيدينا سوى الصراخ بمليء أفواهنا المُتعبة ... حتى متى تظل تنوح ياعراق ... حتى متى تظل تنوح؟