طباعة هذه الصفحة
الأحد, 15 أيلول/سبتمبر 2013

سـالميات

  عماد حياوي المبارك
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

عندما كنت طالباً في الجامعة ببغداد ، كان (سالم المختار) في هندسة بصرة ، ألتقيه كلما أذهب هناك ، في سفرات متعددة كل عام ، ذلك بسبب شدة تعلقي بالبصرة وأجوائها ... الساخنة ! ففيها نشعر بالحرية خارج البيت ، نتجول كما نشاء ونأكل ونشرب ما نستطعمه في مطاعمها وباراتها دون رقيب وبحدود المعقول ، والأهم بغير سوط يحدد لنا الحلال من الحرام ، فنحن الذين نحدد تلك الحدود ونحن نكسرها متما شئنا ، نسهر ونلهو ونمضي بالإتجاه الذي تأخذنا أقدامنا إليه ، نتعلم من الحياة ما هو ضروري ، وما لم نتعلمه بين جدران بيت أو مدرسة ، كما الطفل حين يبدأ بالزحف ثم المشي ، فينطلق خارج حدود مهدهِ ، يتعلم من سقوطه ومن جروحه وحروقه ما لم يتعلمه من أهله لكن الأمر مختلف ببغداد ، فللبيت قُدسية وقواعد وتوقيتات ، وعلى الأولاد الأخذ بها وإطاعتها ، حتى وإن لم يكونوا مقتنعين بها ، فهي متأتية من ثقافة مجتمع ومن كون أن البيت هو المُعيل الوحيد ، وهذا الأمر يجعل العائلة الشرقية تمسك (بشباكها) بالأبناء الى أن يتمكنوا من إعالة نفسهم ، وبالتالي يتم (الفلتان) من قبضتها ، وقواعد هذه اللعبة تختلف هنا في المجتمع والعائلة الأوربية . × × × (سالم المختار) لم يكن صديقاً عادياً بالنسبة للكثيرين الذين عايشوه ، فقد تركت بصماته أثراً في سجل حياة معارفه ، سوف لن يزول منها ـ بأعتقادي ـ أبداً ! بين بيت أهلهِ ـ خلال السبعينات ـ في دور الضباط بالاربع شوارع باليرموك وبيتنا بحي القادسية ، كنا نقضي أيام العُطل ، وبسهولة يتسنى لنا التجمع ومن ثم الإنطلاق خارج الجدران الأربع سالم ، من عائله بغدادية مثقفة منفتحة أفرادها كلٌ ذا شخصية مستقلة تختلف عن الاخر ، هم ثلاث أخوات وولدين ، كلهم من مملكة ـ سين ـ وهو وكافة العائله ذو جمال مميز وأخلاق نبيلة ، جميعهم ذا لون عيون عسلي وشعر سرح أشقر وقوام رشيق وملامح جذابة الكبرى جدية بالحياة تحب القراءة ولا تحب اللهو ويبدو ذلك جلياً عليها من خلال عدم الابتسام والعوينات المستديرة الواسعة المتربعة على أنفها الصغير ، عكس اختها الشقراء الصغيرة فهي بسيطة تحب ان ترافق اخوتها بالخروج للنزهة ، للسينما او العشاء ، والوسطى متزنة تدرس الهندسة معي ، والاخ الاكبر متدين ومريض بالقلب لا يحب ان يختلط بأحد . اما الأب فهو مسؤول كبير بالشرطة في زمن حكم الملوك ، وهو عصبي المزاج مؤمن ملتزم ، ينهض باكراً ويُصلي الفجر ـ يومياً ـ بالمسجد القريب ، يُدمن مطالعة الصحف ، ويخيفـنا كثيراً عندما (يبحلق) بعيونه و(يعلسنا) كلما نتجمع أمام مسكنه لنصطحب سالم ، ويُكمل (علسته) لنا عند عودتنا (المتأخرة) من نقابة المهندسين حين نجده يإنتظارنا ، وكأن دين بذمتنا واجب علينا تسديده ، بعد ان نقف (بالاستعداد) أمامه ، ولايسكت الا بعد ان (يطيّر) الكحول من أدمغتنا الفتية ولـ (سالم) شخصية مميزة جداً ، هي مزيجاً وأنسجاماً بين جمالين ، وسامة المظهر (اناقة وذوق واتيكيت ... ) فتجده حليقاً متأنق مُعطر طوال اليوم ، وجمال الذات (إستقامة وطيبة ومثالية ... ) ، وكان قيادياً طويل القامة رياضي البنية ، يلعب كرة السلة في الجامعة بأقتدار ، ذكي يمتلك شخصية قوية . وكان مهمل بالدراسة ، حيث انه وبعد (خمس) سنين بقسم المدني ، كان لايزال بالصف الثالث ، وله علاقات واسعة بالناس الـ (هاي لايف) كما كُنّا نصفهم ، وبأمكان (نظراته) ـ كما يقول ـ من السيطره على المقابل ـ من بنو آدم أو حواء ـ بسهولة واخضاعهم له ، وبالتالي أن يُملي عليه ما يطلب ، عزومة او توصيلة او ما شابه ذلك ، ليس اكثر ... أما جيوبه فهي مليئة على الدوام بنوع (جكليت) فاخر ، وعليه فهي (عامِرة) بالماكنتوش الذي يأتيه (كصوغة) من الكويت مع السيجائر والعطور والملابس ، يقدمه لمن يشاء معتبراً أنه أبسط هدية تقدم لمن يسقط ... بشباكه ! وبفضل ميزات شخصيته المتعددة هذه ، تغلّبَ على مشكلة أنه مفلس على الدوام ، وأستطاع أستكشاف وزيارة اي مكان يرغبه ، كون الاخرين يفتخرون بمصاحبته ، فتجده برفقة اولاد و(بنات) الذوات بأستمرار . أرتاد كل فنادق ومطاعم خمس نجوم بغداد والبصرة ـ بالسبعينات ـ فمطاعم البرمكي وكولدن بليت وفوانيس وفندق القصر العباسي وصدر القناة وغيرها كثير ، وهو لايتردد بدفع كل ما بجيبه (بقشيش) للعامل . يرتبط بأصدقاء من مقيمي الكويت عراقيين وعرب ، وكانت (الشدّة) بلعب الورق بشقتهم بشارع الوطن تزهو بروادها طالما (المختار) موجود ، ولو حضر للعب ، فأنه يلعبُ ليفوز ليس غير ، فهو لايعرف الخسارة ، والغريب أن فوزه يُسعد الاخرين لانه سيقربهم منه ، أما الربح فلا يبيت بجيبه أكثر من يومين ! في القطار الصاعد الى او النازل من البصرة ، كان الكل يرغب بالسفر بيوم سفره ، والكل يحبون ان يكونوا بعربته ، وسيكون مُرحّب به بينهم بكل ود ، لمجالستهم ومشاركتهم في حديثهم ومأكلهم ومشربهم ... وحتى بكراسي جلوسهم ! كان هناك عمود في مجلة الموعد اللبنانية تحت عنوان (سالميات) يحرره صحفي لبناني اسمه (سالم الجسر) ، وهو يتطرق بالنقد (اللاذع) للمجتمع ، إدعى سالمنا بأنه محرر هذا العمود ، ونجح ـ من باب المداعبة ـ باقناع بعض الزملاء والزميلات . ولسالمنا أيضاً الإمكانية الفريدة بأدارة مجلساً يحضرهُ وتمرير ما يود ، وان يلفت النظر لتعليقاته ، التي أسميناها ... سالميات . × × × ولانه يقول ان نظراته لاتُقاوم وبأمكانها (كسر) عين أياً كان ، فقد كان يُراهن عليها ، فنذهب الى ـ أورزدي باك ـ مثلاً ونختار (ضحيته) ، إحدى البائعات المسكينات ، يبدأ بالهجوم عليها بكل هدوء وأدب ... فيُركز بنظراته أولاً الى أعلى من رأسها بمسافة تكون كافية لمراقبتها ودراسة سلوكها وحالتها دون أن تنتبه إليه ، ثم يبدأ يبادلها (نظرات) دون أن تنزل عينه من عليها بكل جرءة ، ثم يقترب منها فيستفزها بطلب ما ، كأن يسألها شراء بطل وسكي في حين هي تشرف على قسم آخر ، مما يتقصد فضح نفسه بشكل واضح بأنه بقصد (التحرش) ، فتصرخ بوجهه ـ كعادة بائعاتنا ـ وتطرده ، إلا أنه لا يرفع عيونه من عيونها ، ويتبع ثلاث خطوات ليس أكثر ... يعتذر أولاً لها بذوق ولباقة ورقّة ويطلب الصفح ... فتسكت ... وثانياً يرجوها بإلحاح أن يسمع منها قبول إعتذاره ... فتقبل ... فيسألها أخيراً ان تثبت له عدم زعلها وأن تأخذ هديته ـ ماكنتوشة ـ فتقبلها و ... تبتسم ! وبينما يطلب أن ترافقه للقسم الآخر الذي سأل عنه ، يسترسل بالحديث معها معرفاً إياها بنفسه ، مهندس وإبن السفير العراقي في البلد كذا ، ولأن وقته ضيق ، يطلب مساعدتها بشراء (بطل الوسكي) كون القسم مزدحم هناك ، وهنا (غالباً) ما تترك محلها وتهب لمساعدته ، فيلتفت لنا عن بُعد ويغمز لأنه كسب الرهان معنا ، وذلك بجعلها تستجيب له وأن تترك محلها ، في وقت لم يحدث ان تقوم إحدى بائعات اورزدي بهكذا أمر ... إلا نادراً ! × × × أبعدنا إيقاع الحياة عنه ، وأبعده عنا ، ولم نلتقِ كثيراً حتى منتصف التسعينات ، حيث قرر الإرتباط بمهندسة تعمل معه بنفس الوزارة ، وهي انسانه ذكية جميلة مثقفة ، من عائلة غنية . وشاء أن يشتري النيشان (وكان بسيطاً) من محلي بشارع فلسطين ، وكانت تلك أول فرصة لتعرفي عليها . سكنا بحي جميلة بمشتمل تابع لبيت أهلها ، وكان يتردد عليّ فنتذكر أيام (نضالنا) بالبصرة ، وكان مفعم بالأمل وكله ثقة بأن المستقبل سيكون له . لكنه غاب عني لأشهر ، ولما سألتُ عنه ، فاجأتني زوجته بزيارة للمحل وكانت على وشك ولادة ابنهم البكر ، وهي بوضع صعب يُرثى له وأخبرتني بأنه مختفي منذ فترة ، إمتدت لأسابيع ، مما جعل قلقها يتحول الى شبه يقين بعدم عودته . كان سالم قد رفض عرض مساعدة أهلها الاغنياء له ، وصمم على العمل لدفع ايجار مشتملهم الذي أسكنوه فيه ، واشترى سيارة برازيلي بأستدانة مبلغها ، واشتغل بعد دوام الدائرة من مهندس لسائق تكسي ، وأوشك تسديد ثمنها خلال عدة أشهر ، لكنه وفي يومٍ ما ... خرجَ ولم يعُد ! لاحقاً ، ولدتْ زوجته صبي وأسمته إسماً تيمناً بإسم أبيه الغائب ، وكانت تتردد على المحل ووضعها يزداد سوء لفراق زوجها وحبيبها ... سالم ! × × × وبعد فترة ، أمسكت الشرطة شابين كانا يُحاولان سرقة سيارة ، وإعترف أحدهما بالصدفة ـ حين إختلف مع صاحبه في التحقيق على أمرٍ ما ـ بأن لشريكه سابقة قتل سائق سيارة خصوصي كانا قد إستأجراها ... حيث في ليلة إختفاءه ، طلبا من سالم إيصالهما لمكان بعيد ، وفي ظلام دامس ، حاولا تسليب السيارة منه ، فتفاجئا بمقاومته لهما وضربهما بشدة ، وأبى (كعادته) الإستسلام وترك الغنيمة لهما ، مما دفع أحدهما كرد فعل ، لتصفيته غدراً بطعنه في ظهره حتى أجهز عليه ، وإضطرا لدفنه بعد ذلك في أرض خلاء . صدمني ذلك الخبر بشدة وأحسست بأن أحشائي تتقطع ، ووجدتُ بأنني ، بل والمجتمع قد فقد شيء ثمين لا يُعوّض ! وأتذكر بالنص ما أخبرتني به : لقد بذلتُ وصرفتُ الكثير كي يحصل هذان المجرمان على أقصى عقوبة ، وكانت أوقات صعبة حين إدّعى محاميهما أنهما إنما كانا يُدافعان عن نفسيهما ، حيث قال ـ مبرراً فعلة موكليه ـ بأن سالم قد (أقسى) عليهما وأمعن بإيذائهما برفسهما بشدة ، حيث بين تقرير طبي ان أحدهما (لايزال) يتعالج من مشاكل تمنعه من الزواج ! وبعد ان أطلقتْ المسكينة حسرة ، تابعت أنها ورغم مناشدات والديتهما ودموعهن و(بوس القنادر) للتنازل وبكافة المغريات المادية أو حتى بالتهديد ، لم تتنازل وبقيت ومحاميها لوحدهما دون أهلها تُقاسي من أجل إستصدار أقسى عقوبة ، وبعد شهور تحقق مطلبها وحصلتْ على ما تمنّتْ ... حُكم إعدام . وقالت ما لم أفهمه و(العهدة عليها) بأنها مصممة ان تشهد إعدامهما رغم رفض أهلها ! وصدمتني بسؤالها : هل تود ذلك ؟ × × × مرت سنين اخرى ، وبرغم أن مشاهد الموت باتت (طبيعية) هذه الأيام في شوارع مدننا الجريحة ، وأن مشهد جريان الدم كما المياه في شوارع العراق ، إلا أني لم انسَ قصة سالم وكأنه شريط فلم يراودني ، تبدأ أحداثه في البصرة وتنتهي ببغداد في يوم بعد سقوط النظام ، زرارتني زوجته بعد غياب طويل وقد أرتدت (شالا) أسود ، فتفاجئتُ بهيئتها ولم أعرفها ، فقد تنافس الزمن والقهر والفراق والوحدة بحفر الأثار القاسية على ملامحها ، طلبت شراء خاتم ولاّدي (حباسية) لابنهما ذو العشر سنين ، وأرادت أن نحفر اسم (سالم) عليه ... سألتها : ولِمَ لا إسم إبنك عليه ؟ قالت وقد اغمضت عينيها بأنها ومنذ رحيله عنها ولحد اليوم تعيش على ذكرى شهور فقط عاشتها معه ، وقالت لي بالحرف ... ـ لو ينظر (سالم) ثواني بعيونك ، ما أظن أنكَ ممكن أن تنساه أبداً ! هززت رأسي بشدة وقد ضاعت الكلمات من بين شفتي ! لكنني إستطردتُ بداخلي : الله يرحمك يا سالم يا مختار ، ويرحم نظراتك التي تكسب الرهان عليها حتى وان مرّت سنين وسنين ! عماد حياوي المبارك × القصة واقعية ، واالمغزى منها في فقدان العراق لاُناس شجعان متميزين ، لم يتسنى للمجتمع أن يكررهم بسهولة

الدخول للتعليق