طباعة هذه الصفحة
الأحد, 27 تشرين1/أكتوير 2013

الإضراب

  فهيم عيسى السليم
تقييم هذا الموضوع
(1 صوت )

الإضراب

 

فهيم عيسى السليم

 

1

 

كان تشارلي في الأربعين من عمره وهو أب لولدين قد إقتنع منذ أمد بعيد أن رئيسه في العمل لن يمنحه وزملائه الزيادة المقررة منذ ثلاث سنوات متحججاً بشتى الذرائع ورغم أن كل شيئ قد إرتفع سعره من الخبز وحتى البنزين إلا أنه ظل يراوح في مكانه ويصر على أسنانه غيضاً كل مساء وهو يحيي رئيسه بالتحية المعتادة.

 

كان تشارلي يعمل عملاً عادياً في إحدى الشركات الضخمة لمكائن النقود في نيويورك وكان عمله المتعب و الحساس الخطر يبدأ عادة في العاشرة ليلاً وينتهي في السادسة صباحاً هو إستبدال الصناديق المليئة التي تحوي آلاف الدولارات من فئة المائة والخمسين والعشرين والعشرة دولارات في مكائن النقود.

 

كانت ساعات العمل الثماني بكل دقائقها الأربعمائة والثمانين مليئة بالتوتر فمن جانب عليه إنجاز كل ماكنه خلال عشرة دقائق بضمنها فترة ترك السيارة والعودة لها ورغم أن مكان رصف السيارة مؤمّن إلا أنه يجب عليه أن لا يضيّع أي دقيقة لإنجاز إستبدال الصناديق في المكائن الأربعين المسؤول عنها!

 

كانت كمية النقود التي تحتويها سيارته تزيد عن الربع مليون دولار كافية ليسيل لها لعاب أي لص محترف أو غير محترف ورغم أن المنطقة التي يعمل فيها تعج باللصوص والسكارى ومدمني المخدرات ورغم أنه وزملائه طالبوا مراراً بوجوب مرافقة حارس مسلح لهم في عملهم الخطرهذا كانت الإدارة تصم أذنيها عن مطالبه ومطالب زملائه متذرعة بالقول أن كل العملية مؤمنه كما أن صناديق النقود مغلقة وكل محاولة لفتح أي منها بالقوة تنبه جرس الإنذار العالي داخلها والذي بدوره يصدر صوتاً عالياً جداً يجعل أي لص يولي الأدبار كما أن الصندوق مزود بجهاز يتلف العملة إذا ما سحب من مكانه المحدد في السيارة ولم يودع في مكانه المحدد في الماكنة خلال ثلاثين دقيقة!

 

كان جميع زملائه يعلمون أنهم في خطر داهم وما هي إلا مسألة وقت ويقع حادث لأحدهم لأن اللصوص لا يعلمون بكل هذه التدابير المعقدة.

 

كانت طبيعة العمل تتطلب أن يقود سيارته إلى مكان عمله ويصل قبل العاشرة بعشر دقائق.كانت السيارة مجهزة بالصناديق الأربعين المرقمة والمرصوفة بطريقة تسهل للسائق جذب الصندوق المقصود المطلوب لماكنة معينة حسب تسلسل وصوله إليها بأقصر الطرق.

 

العملية بسيطة عليه سحب الصندوق والسير به إلى المدخل الخلفي أو الجانبي للبناية التي يكون حارس البناية قد فتحها له في الوقت المتفق عليه كل يوم ليدخل ساحباً الصندوق القديم ومستبدلاً به الصندوق الجديد والعودة بالقديم إلى السيارة حيث يعيد الصندوق إلى مكانه المحدد وهكذا حتى يكمل آخر الصناديق في تمام الساعة السادسة صباحاً ليعود أدراجه إلى مقر الشركة ويركن سيارته في المكان المخصص لها داخل البناية بطريقة تجعل خلفية السيارة ضمن الآلية الميكانيكية لتفريغ الصناديق حيث يبدأ موظفون متخصصون بعدها وإكمال حشو النقود الجديدة وإكمال الصناديق الجديدة التي تشحن ميكانيكياً في مكانها المخصص تمهيداً لدورة جديدة تبدأ في العاشرة مساءً.

 

بعد ظهر ذلك اليوم الكئيب البارد من أيام كانون الأول جلس تشارلي مع زوجته هيلين يتسامران كما هي العادة حيث قال لها أنه يشعر بالكآبة والحزن وخيبة الأمل كل مساء عند إقتراب موعد ذهابه إلى العمل لكنه كان يدرك أن لا مجال للمناورة فأقساط المنزل هي السيف المسلول على رقبته ورقبة العائلة والأولاد يكبرون ولهم في كل يوم مطلب بل مطالب.

 

صحيح أنه ورث من عائلته المزرعة الصغيرة والبيت لكنه إرث مشترك بينه وبين أخته كارولين التي تكبرة بست أعوام والتي تعيش وتعمل هي وزوجها وولديها الشابين فيها . وحيث أن المزرعة تدر دخلاً معقولاً لكارولين وعائلتها إنما والحال هذه فلا مجال للتفكير في بيعها والإستفادة من المبلغ في سداد دين المنزل إلى المصرف.

 

كان تشارلي وعائلته قد إعتادوا الذهاب إلى المزرعة كل إسبوعين حيث يقضوا عطلة نهاية الإسبوع هناك  يساعدون في أعمال المزرعة ويعودون محملين مساء الأحد بالفاكهة والخضار الطازجة والبيض والنبيذ والتي تكفيهم لإسبوعين عادة .كان تشارلي وهيلين سعداء وراضين بهذا الترتيب خصوصاً وأن أخته تحرص على أن لا يصرفوا أي شيئ خلال فترة وجودهم هناك وكأنها تعوض أخاها عن حصته في المزرعة والدار.

 

في ذلك المساء البارد الأغبر أعلن تشارلي لزوجته أنه قرر أن لا يذهب للعمل اليوم ! هكذا وبدون سابق إنذار أو حتى تحسب لما سيحصل .

 

صحيح أنه فكر مراراً هو وزملائه بالطريقة التي يستطيعون معها كسر شوكة الإستغلال المريع الذي يمارَس عليهم يومياً فهم يعلمون على وجه التقريب كم تجني الشركة من أرباح كل يوم لقاء عملهم حيث تتقاضى الشركة دولارين عن كل عملية سحب فإذا إفترضنا أن معدل السحب في المرة الواحدة 100 دولاراً فإن الشركة تجني لقاء ال 25000عملية سحب في المكائن الأربعين ما يعادل 50 ألف دولار يومياً لقاء أجر كل منهم البالغ 240 دولاراً في اليوم قبل إستقطاع الضريبة!!

 

قال لزوجته أنه مل وبشكل لا يطاق هذا العمل المضني الخطر دون أمل في زيادة راتبه.

 

إتصل بثلاثة من أخلص زملائه وأعلمهم بالأمر.

 

إتصل بأخته كارولين (وكان يوم جمعة) وأعلمها أنهما قادمان مساءالجمعة بدل المعتاد وهو السبت بعد أن أخبر أولاده الذين أبديا سعادتهما بهذا الخبر.

 

إنه يوم متعة إضافي لا أكثر ولا أقل.

 

كانت الشركة تملك حوالي ألفي ماكنة لسحب النقود لذا فهناك ثمانون سائقاً مع سواق إحتياط  في حالات التغيب الإضطراري ولتغطية عطلات نهاية الإسبوع والعطلات السنوية.

 

من العجيب الغريب أن جميع السواق إنتابتهم نفس المشاعر مساء ذلك اليوم الكئيب من أماسي كانون الأول وقرروا ولكل أسبابه وكانوا تحت ضغط عمل قاتل عدم الذهاب إلى العمل ذلك المساء مع القناعة أن الشركة الهائلة المتعددة الفروع تستطيع وبسهولة تدبير البدلاء وكان أولهم أصدقاء تشارلي المقربين.

 

لابد من القول أن الزملاء الخلّص الثلاثة لتشارلي الذين أعلمهم بنيته على التغيب قد أعلم كل منهم بدوره بعض زملائة المخلصين الآخرين عن هذه النية المبيتة للتغيب.

 

في الحقيقة كانت شروط العمل قاسية جداً حتى أن السائق لا يستطيع أن يذهب إلى الحمام خلال دورة العمل البالغة ثمان ساعات ولا يستطيع أن يأكل وممنوع علية إستخدام الهاتف النقال إلا للضرورة القصوى كل هذا مع أجر شحيح يشبه أجر السائق النهاري العادي وبدون وجود مساعد لهذه المهمة الخطرة.

يتبع

الدخول للتعليق