• Default
  • Title
  • Date
الإثنين, 25 كانون2/يناير 2016

"أنشودة المطر" رائعة السَّياب وإيقونة الشعر العربي الحديث

  عزيز ساجت
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

كثيرون من قراء الشعر ومحبيه سيندهشون عندما يعلمون أن بدر شاكر السَّياب ، الذي ملأ حياة القصيدة العراقية والعربية في سمتها الحر ، وشغل مؤيديها ومناهضيها على حد سواء - منذ ما يقارب ستة عقود من الزمن - لم يعش أكثر من 38 عاما فقط . لكن الجميع يعرف أن أعوام السَّياب تلك كانت مزدحمة بأحداث شعرية وسياسية وفكرية واجتماعية وإنسانية ، من السهل البحث عن أصدائها في مجمل تركته الشعرية ، التي توزعت في دواوين كثيرة نُشر إغلبها قبل وفاته ، في حين نُشرت البقية منها بعد ذلك ومنها : ازهار ذابلة - أساطير - حفر القبور - المومس العمياء - الأسلحة والاطفال - أنشودة المطر- المعبد الغريق - منزل الاقنان - ازهار واساطير - شناشيل ابنة الجلبي - إقبال وشناشيل ابنة الجلبي - قيثارة الريح - أعاصير – الهدايا - البواكير - فجر السلام - وبعض الترجمات الشعرية والكتب النثرية ، حيث برزت إبداعاته الشعرية في سن مبكرة من حياته القصيرة .
لقد عاصر السيّاب من الشعراء العراقيين الرواد ، نازك الملائكة ، بلند الحيدري ، عبد الرزاق عبد الواحد ، لميعة عباس عمارة ، وغيرهم .
وكان من المرجح تطور شعرية السّياب بشكل أكبر لولا الظروف السياسية التي عانى الكثير من تقلباتها ، وهو يتقلب بينها منكويا بجمر ذلك التقلب السريع ، والظروف المرضية القاسية التي عانى منها خلال السنوات الاخيرة من عمره .
لقد شارك مع بعض زملاء مرحلته في تأسيس مرحلة جديدة ومهمة من مراحل القصيدة العربية ، وقد كانت من ابرز هؤلاء ، الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة ، التي نازعته في كتابة القصيدة التفعيلية الاولى في الشعر العربي الحديث .فعلى الرغم من التجارب التحديثية التي مرت بها القصيدة العربية منذ مطلع القرن العشرين على يد بعض الشعراء المغمورين إلا انها ظلت تجارب خجولة ، سرعان ما تخلى عنها أصحابها .
أما محاولتا السَّياب والملائكة فقد كانتا محاولتين جادتين ، وقد أصر الشاعران عليهما في كل نتاجاتهما اللاحقة ، وقد اختلف مؤرخو الأدب حول أسبقية كل منهما للآخر ، ففريق من النقاد يرى أن الملائكة سبقت السَّياب بقصيدتها ( الكوليرا ) في حين يرى فريق آخر أن السَّياب كان هو الاسبق بقصيدته ( هل كان حبا ) ؟ .
والأرجح أنهما يتشاركان في الآسبقية ، فقد كانت تجربتهما ناتجتين عن مناخ أدبي واحد ، ساد زمن واحد ، وقد نشرت القصيدتان في وقت واحد تقريبا ، إحداهما في مجلة والاخرى في ديوان ، ولكن هناك فريق ثالث يتشارك بالإيمان بأهمية السيّاب الاستثنائية في حقل الشعر العربي الحديث ، مقارنة له بالملائكة ، ففي الوقت الذي تراجعت فيه شعرية الملائكة ، وربما نكصت نكوصا غير مفهوم خلال سنوات قليلة ، فإن شعرية السياب تألقت تألقا تبدى في عدد كبير من المطولات الشعرية التي لا تقل عن اشهر قصائدة الجميلة الخالدة عن ( انشودة المطر ) في القيمة الفنية مثل ( المومس العمياء ) و( حفار القبور ) و( الأسلحة والأطفال ) ( بور سعيد ) ، (سفر ايوب ) التي غناها بصوته الشجي سعدون جابر ، وبصوت المطرب محمد عبده .
على الرغم من أهمية النتاج الشعري الضخم نسبيا الذي تركه السَّياب وراءه فان قصيدة أنشودة المطر تظل هي جوهرة التاج السيّابي ، فقد اعتبرت هذه القصيدة تحديدا إيقونة حية للشعر العربي الحديث ، وجعلت من شاعرها رمزاً لهذا النوع من الشعر ، الذي كان جديدا وغريبا الى حد كبير على الذائقة العربية ، ولعله بقى كذلك حتى يومنا هذا .
لقد كان بدر يعاني من مشكل نفسية وجسمانية قبل ان يصاب بالمرض العضال ، مرض الاعصاب الذي أودى بحياته . وكانت عقدة الموت من المشاكل النفسية التي سيطرت على تفكيره منذ سنٍ مبكرة . فقد ذكر ذلك في بعض أشعاره .
عيـوني بآفــاقـــه ســـاهرات وحولي يبيت الـــورى رقَّدا
بأرجائه ألتقي بالـممات كأني على موعد بالردى

وتذكر كتب الطب النفسي أن بعض الشباب في المرحلة الاخيرة من فترة المراهقة تسيطر عليهم أفكار عن فلسفة الحياة والغرض منها ، كما تسيطر على بعضهم فكرة الموت أو الخوف منه ، وقد سيطرت على بدر تلك العقدة ، عقدة الموت سيطرة كبيرة منذ أيام المراهقة .
كتب السَّياب سنة 1948 وهو صغير وقبل أن يصاب بالمرض القاتل باثنتي عشرة سنة في قصيدة ( في ليالي الخريف ):
كيف يطغى علي المسا والمَلال ! ؟ في ضلوعي ظلام القبور السجين في ضلوعي يصيح الردى بالتراب الذي كان أمي :" غدا سوف يأتي فلا تقلقي بالنحيب عالم الموت حيث السكون الرهيب ". سوف أمضي كما جئت واحسرتاه ! .
عانى السَّياب في آخر أيامه اضطرابات نفسية حادة ، وحين حاولوا استخدام العلاج الطبيعي معه ، سبب سوء حظه كسراً في عظم الفخذ ، لشدة ضعف العظم والعضلات ، وكانت وفاته في الرابع والعشرين من عام 1964 ، متأثرا بمرض عضال (السل الرئوي ) او ما يسمى ب( ذات الرئة الشعبي ) في احدى مستشفيات دولة الكويت ، التي كانت ملاذه الاخير .
لقد اهتم بالأدب العالمي وبالأدب الإنكليزي على وجه الخصوص ، كان لا يتوقّف عن الإشارة الى اهتمامه بالشعراء الإنكليز الذين أحبّهم واصطفاهم ، شكسبير ، بايرون ، وردزورث ، شلي ، كيتس . وكان كيتس أحبهم إلى قلبه شاعراً وإنساناً ، ومن اجلهم كان تخصصه في اللغة الإنكليزية ، وتعمقه في آدابها ، وعمله معلماً للإنكليزية في مستهل حياته العملية .
فانشودة المطر تمثل وجع العراق في وجعه ولهفته وكبريائه وشجونه ، وجد نفسه فيها ، كما كانت قصيدته العمودية ( بور سعيد ) التي نظمها اثناء العدوان الثلاثي على مصر وعلى مدينة بورسعيد بالذات ، سكب في مقاطعها روحه الشعرية العارمة ، واسترسل في إبداعها . تذكرنا بإبداع ما في تراث القصيدة العمودية عند شعرائها الكبار ، لغة شديدة الأسر والاحكام ، وتدفق شعري وايقاعي عارم ، وقافية تنصبٌ انصباباً في ختام الابيات ، واحتشاد روحي يجيش في ثناياها ويفجّر كيمياءها ، حين يقول فيها :

يا حاصد النار من أشلاء قتلانا
منك الضحايا ، وإن كانوا ضحايانا
كم من ردّى في حياةٍ ، وانخدال ِ ردّى
في ميتةِ ، وانتصار جاء خذلانا
إنّ العيون التي طفّأت أنجمها
عجّلن بالشمس أن تختار دنيانا
وامتدّ ، كالنور ، في أعماق تربتنا
عرس لنا من دم و اخضلّ موتانا
(............................الى اخر القصيدة ).
ثم يفسح هذا المعيار الشعري الباذخ مجالاً لمقطع جديد ، يصوغه السَّياب في الاطار الشعري الذي اصبح عنوانا عليه هو ورفاقه من رواد قصيدة الشعر الجديد او الشعر الحر او شعر التفعيلية ، لكن الشموخ الذي تنطق به المقاطع العمودية في قصيدة السيّاب ، هو الشموخ نفسه الذي يقوم عليه هذا المقطع الجديد .وهذا هو سر عبقرية السيّاب التي انسكبت في قصائده من الشعر الجديد حاملة كل خصائص القوة والاحكام التي حملها شعره العمودي ، فيما كانت هشاشة اللغة والتركيب والبنية الشعرية تجد مرتعها هي كثير من قصائد غيره من الرواد .
ويعود الإيقاع المجلجل ، والمعمر الباذخ ، والبناء العمودي ثانية ، ليأخذ مكانة في اللوحة الشعرية ، التي خلدت معركة بورسعيد وجَعلتها شاخصة تضج بالحياة في كل صورها وعناصرها : أصواتاً وألواناً وطيوفاً ً ، وشخوصاً وأسلحة وعتاداً وسماوات وأرضاً وأرواحاً وأجساداً . والرسام المصور العبقري : السَّياب يضرب بألوان فرشته وأصباغ ريشته في قوة واقتدار .
فالمجد الباذخ يلزمه شعر باذخ ، والكفاح المستبسل تلزمه ألوان جريئة صادمة ، والتحدي الشعري المتمثل في الشكلين العمودي والتفعيلي يصنع جديلةً شعرية لا نٌحس معها بأن ثمة تغيراً في الاحساس أو عقبة في التلقي . فقد وُظفت الصيغتان ، بطريق فذّة مدهشة ، لتحدثا روعة التكامل ، وروعة البناء الواحد ، وروعة التأثير الكلي العارم .
كان السَّياب يبدي حماسه البالغ لقصيدة ( بورسعيد ) وبنائها التركيبي العمودي التفعيلي – وصياغتها القوية المحكمة ، وكان يدرك تماماً قيمتها بين سائر قصائده ، نموذجاً فريداً لشعر الصمود والمقاومة والكفاح ، حتى عندما اقترب إيقاع القصيدة وقافيتها - في أحد مقاطعها - من قصيدة أبي تمام الشهيرة في عمورية - وأبو تمام هو شاعره المفضّل بين شعراء التراث الشعري .
فإن هوية السَّياب الشعرية لم تفارقه ، ونَفسه الشعري لم يتخلّ عنه ، وروحه الجبارة العارمة لم تغب عن كلماته ، كونه شاعر كبير لم ينصفه القدر . فهو بين مدرستين مختلفتين كلياً "أنشودة المطر" و"بور سعيد" .
في قصيدة انشودة المطر وقفات جمالية ونفسية متنوعة ، اخذت منه الشيء الكثير ، وهي عبارة عن دلالات رمزية معبرة عن تناقضات الحياة والطبيعة وفي غور أعماق الذات الانسانية.
في انشودة المطر ، وعن صوت زخاته المجلجل ، نوه شاعرنا الكبير الى مفردتين معروفتين بالقداسة ، التراتيل والغناء ومن ثَم الماء باعتباره رمز الخصب والخير والنماء في حياة الشعوب منذ أقدم العصور، ولذلك يوظِّفه الشعراء ليعبروا بدلالاته عن قضايا اجتماعية ، أو هموم فردية لصيقة ، وبدر شاكر السَّياب من أوائل الشعراء العرب الذين بادروا إلى توظيف المطر في قصائدهم ؛ ليكون رمزاً واسعاً قادراً على حَمْل الهواجسِ الإنسانية ، وعرض الأشكال المتباينة من معاناة الفرد أو الجماعة ، وقد استثمر السَّياب المطر وحوَّله إلى قيمة خَصْبة غنية بالدلالات في عدد كبير من قصائده مثل: قصيدة (السندباد) وقصيدة (مدينة بلا مطر) وهاتان القصيدتان تقعان ضمن قصائد ديوانه (أنشودة المطر) الذي حمل عنوان قصيدته (أنشودة المطر) وتُعدُّ قصيدة أنشودة المطر من أشهر القصائد العربية الحديثة التي تناولها النقاد والباحثون بالدَّرس والتحليل بسبب اشتمالها على مقوِّمات فنية جديدة ، وعناصر ناجحة من عناصر الرؤية الشعرية المُعاصرة ؛ ولأنها أيضا جاءت مُلبية إلى حدٍّ كبير حاجة التطور والتجديد التي كان يهجس بها الشعراء والنقاد في ذلك الوقت مما حدا عددا كبيرا من الدارسين على الزعم بأن السَّياب رائد الشعر العربي الحديث .
من الملاحظ أن أنشودة المطر ترتبط بمعنى الغناء والإبتهال، وهو ما كرره السّياب في ثنايا النص .
وقد استهل الشاعر قصيدته بالغزل بعينيّ مخاطبته. وقد اختار غابة النخيل وساعة السحر، للسواد في كليهما.
وكما هو معروف أن الصورة المألوفة أن تكون عينا المحبوبة لامعتين برَّاقتين ، ولكن الشاعر صورهما مظلمتين ؛ لأن المرأة تتخذ دلالات رمزية ترتبط بالوطن والوضع القائم فيه .

________________________________________
نص قصيدة (أنشودة المطر)
عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ ،
أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ .
عَيْنَاكِ حِينَ تَبْسُمَانِ تُورِقُ الكُرُومْ
وَتَرْقُصُ الأَضْوَاءُ ...كَالأَقْمَارِ في نَهَرْ
يَرُجُّهُ المِجْدَافُ وَهْنَاً سَاعَةَ السَّحَرْ
كَأَنَّمَا تَنْبُضُ في غَوْرَيْهِمَا ، النُّجُومْ ...

وَتَغْرَقَانِ في ضَبَابٍ مِنْ أَسَىً شَفِيفْ
كَالبَحْرِ سَرَّحَ اليَدَيْنِ فَوْقَـهُ المَسَاء ،
دِفءُ الشِّتَاءِ فِيـهِ وَارْتِعَاشَةُ الخَرِيف ،
وَالمَوْتُ ، وَالميلادُ ، والظلامُ ، وَالضِّيَاء ؛
فَتَسْتَفِيق مِلء رُوحِي ، رَعْشَةُ البُكَاء
كنشوةِ الطفلِ إذا خَافَ مِنَ القَمَر !
كَأَنَّ أَقْوَاسَ السَّحَابِ تَشْرَبُ الغُيُومْ
وَقَطْرَةً فَقَطْرَةً تَذُوبُ في المَطَر ...
وَكَرْكَرَ الأَطْفَالُ في عَرَائِشِ الكُرُوم ،
وَدَغْدَغَتْ صَمْتَ العَصَافِيرِ عَلَى الشَّجَر
أُنْشُودَةُ المَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر...
مَطَر...
تَثَاءَبَ الْمَسَاءُ ، وَالغُيُومُ مَا تَزَال
تَسِحُّ مَا تَسِحّ من دُمُوعِهَا الثِّقَالْ .
كَأَنَّ طِفَلاً بَاتَ يَهْذِي قَبْلَ أنْ يَنَام :
بِأنَّ أمَّـهُ - التي أَفَاقَ مُنْذُ عَامْ
فَلَمْ يَجِدْهَا ، ثُمَّ حِينَ لَجَّ في السُّؤَال
قَالوا لَهُ : " بَعْدَ غَدٍ تَعُودْ .. " -
لا بدَّ أنْ تَعُودْ
وَإنْ تَهَامَسَ الرِّفَاقُ أنَّـها هُنَاكْ
في جَانِبِ التَّلِّ تَنَامُ نَوْمَةَ اللُّحُودْ
تَسفُّ مِنْ تُرَابِـهَا وَتَشْرَبُ المَطَر ؛
كَأنَّ صَيَّادَاً حَزِينَاً يَجْمَعُ الشِّبَاك
وَيَنْثُرُ الغِنَاءَ حَيْثُ يَأْفلُ القَمَرْ .
مَطَر ...
مَطَر ...
أتعلمينَ أيَّ حُزْنٍ يبعثُ المَطَر ؟
وَكَيْفَ تَنْشج المزاريبُ إذا انْهَمَر ؟
وكيفَ يَشْعُرُ الوَحِيدُ فِيهِ بِالضّيَاعِ ؟
بِلا انْتِهَاءٍ - كَالدَّمِ الْمُرَاقِ ، كَالْجِياع ،
كَالْحُبِّ ، كَالأطْفَالِ ، كَالْمَوْتَى - هُوَ الْمَطَر !
وَمُقْلَتَاكِ بِي تُطِيفَانِ مَعِ الْمَطَر
وَعَبْرَ أَمْوَاجِ الخَلِيج تَمْسَحُ البُرُوقْ
سَوَاحِلَ العِرَاقِ بِالنُّجُومِ وَالْمَحَار ،
كَأَنَّهَا تَهمُّ بِالشُّرُوق
فَيَسْحَب الليلُ عليها مِنْ دَمٍ دِثَارْ .
أصيح بالخليج : " يا خليجْ
يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! "
فيرجعُ الصَّدَى
كأنَّـه النشيجْ :
" يَا خَلِيجْ
يَا وَاهِبَ المَحَارِ وَالرَّدَى ... "

أَكَادُ أَسْمَعُ العِرَاقَ يذْخرُ الرعودْ
ويخزن البروق في السهولِ والجبالْ ،
حتى إذا ما فَضَّ عنها ختمَها الرِّجالْ
لم تترك الرياحُ من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ .
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
وأسمع القرى تَئِنُّ ، والمهاجرين
يُصَارِعُون بِالمجاذيف وبالقُلُوع ،
عَوَاصِفَ الخليج ، والرُّعُودَ ، منشدين :
" مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
وفي العِرَاقِ جُوعْ
وينثر الغلالَ فيه مَوْسِمُ الحصادْ
لتشبعَ الغِرْبَان والجراد
وتطحن الشّوان والحَجَر
رِحَىً تَدُورُ في الحقول ... حولها بَشَرْ
مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
وَكَمْ ذَرَفْنَا لَيْلَةَ الرَّحِيلِ ، مِنْ دُمُوعْ
ثُمَّ اعْتَلَلْنَا - خَوْفَ أَنْ نُلامَ – بِالمَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
وَمُنْذُ أَنْ كُنَّا صِغَارَاً ، كَانَتِ السَّمَاء
تَغِيمُ في الشِّتَاء
وَيَهْطُل المَطَر ،
وَكُلَّ عَامٍ - حِينَ يُعْشُب الثَّرَى- نَجُوعْ
مَا مَرَّ عَامٌ وَالعِرَاقُ لَيْسَ فِيهِ جُوعْ .
مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
في كُلِّ قَطْرَةٍ مِنَ المَطَر
حَمْرَاءُ أَوْ صَفْرَاءُ مِنْ أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ .
وَكُلّ دَمْعَةٍ مِنَ الجيَاعِ وَالعُرَاة
وَكُلّ قَطْرَةٍ تُرَاقُ مِنْ دَمِ العَبِيدْ
فَهيَ ابْتِسَامٌ في انْتِظَارِ مَبْسَمٍ جَدِيد
أوْ حُلْمَةٌ تَوَرَّدَتْ عَلَى فَمِ الوَلِيــدْ
في عَالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، وَاهِب الحَيَاة !
مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
سيُعْشِبُ العِرَاقُ بِالمَطَر ... "

أصِيحُ بالخليج : " يا خَلِيجْ ...
يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! "
فيرجعُ الصَّدَى
كأنَّـهُ النشيجْ :
" يا خليجْ
يا واهبَ المحارِ والردى . "
وينثر الخليجُ من هِبَاتِـهِ الكِثَارْ ،
عَلَى الرِّمَالِ ، : رغوه الأُجَاجَ ، والمحار
وما تبقَّى من عظام بائسٍ غريق
من المهاجرين ظلّ يشرب الردى
من لُجَّـة الخليج والقرار ،
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيقْ
من زهرة يربُّها الرفاتُ بالندى .
وأسمعُ الصَّدَى
يرنُّ في الخليج
" مطر .
مطر ..
مطر ...
في كلِّ قطرةٍ من المطرْ
حمراءُ أو صفراءُ من أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ .
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد
أو حُلْمَةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ
في عالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، واهب الحياة . "

وَيَهْطُلُ المَطَرْ ..

وقد غنى قيصر الغناء العربي الفنان كاظم الساهر اغنية ( الشمس اجمل في بلادي...) وهي مقطع من قصيدة غريب على الخليج .

الشمس أجمل في بلادي من سواها ، و الظلام
حتى الظلام - هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق
واحسرتاه ، متى أنام
فأحسّ أن على الوسادة
من ليلك الصيفي طلاّ فيه عطرك يا عراق ؟
بين القرى المتهيّبات خطاي و المدن الغريبة
غنيت تربتك الحبيبة
وحملتها فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه ،
فسمعت وقع خطى الجياع تسير ، تدمي من عثار
فتذر في عيني ، منك ومن مناسمها ، غبار
ما زلت اضرب مترب القدمين أشعث ، في الدروب
تحت الشموس الأجنبية
متخافق الأطمار ، أبسط بالسؤال يدا نديّة
صفراء من ذل و حمى : ذل شحاذ غريب
بين العيون الأجنبية
(.................. الى آخر القصيدة )

المصادر :
*معاناة الداء والعذاب في أشعار السَّياب / د.حجر أحمد حجر البنعلي
*موسوعة كنوز شوارد التراث / الكاتب المصري - سامح كريم .
*بدر شاكر السياب .. انشودة المطر الخالدة / الشاعرة الكويتية سعدية مفرح .
*مجلة الفكر المندائي / كراس فصلي / يصدر عن مجلس شؤون الصابئة المندائيين في ذي قار - الناصرية / العدد / التاسع / السنة الرابعة - 2005 / قسم أدب / معاناة السيّاب / بقلم : السيد حكيم سليم .
*بدر شاكر السيّاب / عن ديوانه "أنشودة المطر"، ضمن مجموعته الكاملة المجلد الاول ص474. / دار العودة - بيروت - 1997.
* وقفات جمالية مع قصيدة انشودة المطر للسَّياب / للكاتب محمد سعد/ شبكة ضفاف لعلوم اللغة العربية .

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014