• Default
  • Title
  • Date
  • فاضل فرج خالد
    المزيد
    الثامن من شباط الاسود   **************************************************** في ذاكرتي ان بدايات عام
  • حامد خيري الحيدر
    المزيد
      خلال دراستي الجامعية في قسم الآثار/ كلية الآداب قبل
  • علي كاظم الربيعي
    المزيد
    لعيبي خلف الاميريدجله (يمينها) واهمها هور السنيه وهور عودة واسماء
  • عربي الخميسي
    المزيد
    في مثل هذا اليوم حدثت نقلة نوعيه غيرت طبيعة الحكم
الأحد, 01 تشرين2/نوفمبر 2020

زرتهُ قبل ألف عام .. فإستقبلني بتواضع الكبار

  صلاح جبار عوفي
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)


قبل أشهر مِن بلوغه الخمسين من العمر، والذي يصادف في 23 حزيران 1020م، رغبتُ بزيارته، لتهنئته، وهو في مقر إقامته في البلاط العباسي ببغداد، والتعرف على أحواله الشخصية، وإنجازاته الادبية، وكذلك على أحوال الخلافة العباسية في تلك الفترة.

وحان الوقت المناسب، تحركتُ مع إحدى القوافل، حيث الطريق ليس قصيراً بين سومر الجنوبية مسقط رأسي، وبغداد مسقط رأسه.. وصلتُ بعد رحلة طويلة مُتعبة، فوجدتُ بغداد زاهية بنهر دجلة العظيم وبجانبيها (الكرخ والرصافة)، وهذا ما خفف من متاعب رحلتي.. توجهتُ نحو مقصدي.. طرقت باب دار شيخنا الجليل أديبنا البارع (أبي الحسين هلال بن المحسن الصابئ).. فتح باب الدار بنفسه، وأطلَّ عليَّ بوجهه النوراني وبعمامته الجميلة وبزيِّهِ الناصع البياض، وهو يُسمعُني أجمل كلمات الترحيب، حتى دخلنا صالة الضيافة، ذات الجدران المغلفة بمكتبة، تضم كنوز التآليف له ولغيرة من الأدباء والعلماء والفلاسفة والمترجمين.
وبعد إستراحة قصيرة، قدَّمَ لي بيده الكريمة، قهوة بغدادية فاخرة، ولنقل " عباسية " .. أعقبها بكاسةٍ من اللبن وطبقٍ من التمر، وضعهما أمامي، قائلاً : هذا يُحلِّي جلستنا، وهو مبتسم .. ولنواصل، قال لي،
فإستأذنته، أن يمنحني وقتاً لطرح أسئلتي.. فأجابني : أنت ضيفنا العزيز.. إسأل عن كل ما يخطر ببالكَ
قلتُ: شكراً لكم.. وهذا أدب وتواضع وكرم الأدباء والعلماء
وكان أول أسئلتي: عن أسرته؟ وبهدوء ورصانة، وبفصاحة لسان وتواضع.. أجاب
أنا، (أبو الحسين هلال بن المحسن بن ابراهيم بن زهرون بن حيّون الصابئ) .. المولود ببغداد، سنة 359 هـ/ 970 م ، أي أن عمري اليوم (خمسون عاماً)، فأكرر شكري لتهنئتكَ، أيها الضيف السومري العزيز، المعطَّر بعطر الحضارات، ومعلِّم الحرف الأول للبشرية
ثم أكملَ عن والده وجدِّه، قائلاً : أما والدي ، فهو الأديب البارع (أبو علي المحسن الصابئ) ، المعروف بصاحب الشامة.. وجدّي، هو الأديب صاحب الرسائل، ورئيس ديوان الإنشاء في الدولة العباسية المعروف (أبو إسحاق إبراهيم الصابئ).. وليَ ولد سيواصل مسيرتنا، بإذن الله، هو (أبو الحسن محمـد غرس النعمة)
وعن أصول أسرتهم (آل الصابي) .. قال
أصولنا من مدينة حرّان.. وحرّان مدينة عظيمة مشهورة، وهي على طريق الموصل والشام والروم، وقيل سُمِّيت على إسم أخي النبي إبراهيم (ع)، وهو هاران، فعُرِّبت، فقيل حَرَّان، وفيها تعددت الأقوام والديانات والمذاهب الأقدم، ومنهم الصابئة
وهنا، لا بد من سؤالٍ يأتي تلقائياً، وهو : لماذا ترك أجدادكم مدينة حرّان، وقَدِموا إلى بغداد..؟
كان ذلك بسبب النهضة العلمية والأدبية والعمرانية، التي إزدهرت في بغداد، في عصر الدولة العباسية، حتى سُمِّيَ عصرها بالعصر الذهبي .. ولكنها الآن ضعفت، ولم يبق للخليفة من علامات السيادة إلاّ الدعاء له في الخطبة ونقش إسمه على السكة، بالرغم من أنَّ الأدباء والشعراء والمترجمين والفلاسفة وعلماء الفلك والفيزياء والرياضيات يقاومون هذا التراجع.
وعن بيته يقول:
فتَّحتُ عينيَّ في بيت علم وأدب ومعرفة.. تتلمذتُ على يد والدي وعدد من أصدقائه من كبار الأساتذة.. ثم تَولّاني جدّي (ابو اسحاق)، فعملتُ معه في ديوان الانشاء، ثم تقلدتُ رياسته بعد وفاة جدي، فإطّلعتُ على أسرار الديوان وشؤون الخلافة وأحوال الوزراء.
وهنا سألته عن صفات من يرأس ديوان الانشاء في الدولة العباسية..؟
فقال: يجب أن يمتاز بالكتمان، الرصانة، التبصير، الوقار، فصاحة اللسان، والمعرفة بطباع رؤسائه.. فإن توفرت هذه السمات، فلا مانع لدى رؤسائه أن يشركوه في مجالسهم الخاصة
وبعد ضيافة ثانية، كانت هذه المرَّة، ما لذَّ وطاب من فاكهة بساتين بغداد العامرة.
سألته : هل تكتب الشعر، أيها الأديب اللامع؟ فقال أكتب ، ولكنني لست مولعاً به..!ا
إذن، أين إنصبَّ إهتمامكَ، أيها الصابي، سألتهُ..!ا
وبفخر أجابني:
بصراحة، همَّتي كانت منصرفة نحو التأريخ، فهو الفن الذي إستأثر بنشاطي.. حتى أنني أوصيتُ إبني "غرس النعمة" أن يواصل في إتمام ما صنعتهُ.
فسألته من جديد : وماذا يعني علم التأريخ بالنسبة لكَ ..؟
فأجابني بكل تواضع : علم التأريخ عندي، يشمل فروعاً متعددة، فهناك التأريخ العام وتأريخ الوزراء والتأريخ المتصل بالنظم والرسوم والتأريخ المتصل بمدينة بغداد والتأريخ القائم على النظرية السياسية والتأريخ الخاص الذي يدور حول أسرتي ومآثرها.. ولهذا يمكن القول، أنني مؤرخ قبل أي شيء آخر.. وقد تفوقتُ في هذا المجال.
وهنا، جاء سؤالي المكمِّل: إذن لا بد من عوامل ساعدتكَ على التفوق..؟ فأجاب
أمور ثلاثة، ساعدتني،
الأول، تجربتي الذاتية في ديوان الانشاء. والثاني، لقائي بكثير من ذوي المسؤولية. والثالث، إطلاعي على الوثائق المحفوظة والرسائل الرسمية.
وبعد إستراحة قصيرة، طلبتُ منه، أن يسمح لي بالإطلاع على ما كتبهُ شخصياً، فكان قد أفردَ قسماً خاصاً من مكتبته الكبرى، لتآليفهِ، التي شملت : كتاب "التأريخ" وهو من أربعين مجلداً.. وكتاب يبحث في الإجتماع والسياسة، بعنوان "تحفة الأمراء في تأريخ الوزراء".. وكتاب "رسوم دار الخلافة"، وفيه يطلعنا على القوانين السائدة في دار الخلافة، وهو شبيه بما يدعى اليوم نظام التشريفات (البروتوكول).. وكتاب " غرر البلاغة "، الذي يُلقي ضوءاً على مستوى أسلوبه في الكتابة.
وكتاب تأريخ بغداد ، وكتاب الأماثل والأعيان ، وكتاب الرسائل ، وكتاب السياسة ، وكتاب الكُتّاب ، وكتاب تأريخ أخبار النحاة ، وكتاب مآثر أهله.
ومن بين الكتب، التي أخذت مني وقتاً أكثر، للإطلاع عليها، كان كتاب (غرر البلاغة)، وفيه وجدتُ أنّ أديبنا ( أبي الحسين هلال بن المحسن الصابئي)، لم يترك مجالاً، إلاّ وكتب فيه .. فكتب في : التحميدات ، السلطانيات ، الفتوح ، العهود ، البيعات ، التهاني ، التعازي ، الشكر ، العتاب ، الإعتذار ، صدور الكتب ، الدُّعاء ، الهدايا ، الثناء ، الموَدَّة ، الشوق ، القناعة .. وغيرها.

وقبل أن أودعه عائدا إلى مدينتي، إخترت لكم نصوصاً من ثلاثة مجالات، وكانت في: "التحميدات" و "التعازي" و "المودَّة"، وهي من بين مئات النصوص المنوعة، التي صاغها بمهارة عالية.
فمثلاً، في مجال التحميدات، كتبَ
" الحمد للـه واصل الحبل وناظم الشمل، وجامع الكلمة ومنزِّل الرحمة، الآمر بالألفة ، المانع من الفرقة الذي أحسن التدبير وأحكم التقدير، ودعا الى التبارِّ والتواصل ، ونهى عن التعادي والتقاطع . أحمده على ما أجمل من الصنع وأجزل من النفع ، وأوضح من الطريق ، وقيَّض من التوفيق ، وأسبغ من النعمة ، ووهب من العصمة ، وصرف من الحيرة ، وأزال من الشبهة ، حمداً قاضياً للحق ، ومؤدِّياً للفرض ،
ومدرَّاً للمادة ، وموجباً للزيادة.."ا

وهذا نموذج عن " التعازي "ا
من حق المصيبة أن تتلقّى بالصبر، كما أنّ من حق النعمة أن تتلقّى بالشكر، وعوض الحال الاولى ، حصول الأجر، وعوض الحال الأخرى ، وجود المزيد . لا جرم أن الحظ في اتباع أدب
الله أوفر حظ ، والربح في متاجرته أكبر ربح.

أما في مجال " الموَدَّة ".. فكتبَ
" ليس الموَدَّات بالدعاوى الموضوعة، والأحاديث المصنوعة، والأقوال المزوَّقة، واللفاظ المسوّقة، مثلها بالشهادات العادلة، التي تؤديها العيون الرامقة، عن القلوب الوامقة، والدلائل القائمة، من النفوس العالمة، على الغيوب السالمة . فإن تلك الأولى أمور واهية العُرى، واهنة القوى، قلقة الأقدام، غير ثابتة المقام، تغرُّ خادعة، وتخون غادرة . وهذه الأخرى قويَّة المنن، وفيَّة الذمم، قائمة المعالم، ثابتة الدعائم، تبدو رائعة، وتلهو راتعة وتُقيم رابعة، وتقرُّ وادعة"ا

وختاماً.. كانت رحلة جميلة ومفيدة.. ودعتُ بعدها شيخنا الجليل وأديبنا البارع ( هلال بن المحسن الصابي).. كان ذلك في حزيران 1020م ، أي قبل ألف عام من الآن.. لأعود إلى مسقط رأسي.. مدينة الأدب والفنون والثقافة.. المدينة السومرية، سوق الشيوخ.. في حزيران 2020م، لأُتابع من جديد مآسي وطن، كان صاحب حضارات وعصور ذهبية
~~~~~~~~~~~~~~

الدخول للتعليق