الليلـةُ عـــيــــد
خُيّل لوحيد إنه نائمٌ ، أو شِبهُ نائم ؛ بل أنه لم يكن يعرف على وجه الدِّقـــة أكان نائمــــــــــاً أم لا ! لكن خُيّل إليه أنه كان يجلسُ صامتاً لا يفكّرُ بشيءٍ معين ؛ فلقد كان ينظر في الفراغِ الممتدِ أمامَ ناظريّه،ويكاد الدمعُ يقفزُ من مقلتيه ساخناَ ، لكنه كان يعتقد إنَّ قوة خفيّة تمنع تلك الدموع من الإنحدار والسقوط على وجنيّه ، وبدأ يتساءلُ مع نفسه ، أهو الكبرياءُ ،... أهو تحجّرُ غُـدةِ الدَّمع ، أم هنالك شيئٌ خفيٌّ يمنعُ تلك الدمعاتُ من السقوط ، ورداً على تساؤله ، قال لنفسه : المسألة ليست الكبرياءُ أبداً ؛ فلطالما بكيتُ مئات المرات حين أتذكر الأحبّة الذين تشتتوا في مختلف بقاع العالمِ ،المعروفِ منها وغير المعروف ، وأردف بعد برهة : البارحة فقط ، بكيتُ بمرارة لموقفٍ عـنَّ لي في خاطري ، إضافة إلى ذلك ، فليس هو بالتأكيد تحجّـرُ غـدةِ الدمع ؛ فلأقـلَّ خاطرةٍ مريرةٍ أو مشاهدةِ طفـلٍ يُعاني ، أو سيدةٍ قد نكّلَ بها الدهر ؛ حتى تبدأ تلك الغدّة اللعينة بفرز عصارتِها مدرارا، وكأنها لن تتدخرَ شيئاً للمستقبل ! وعاد يُسائلُ روحه : أيمكن أن يكونَ اليأسُ الذي يُحيط بي ، ويُغلّـفُ روحي هو مصدرُ هذا القلق المُبهم الذي يجعلني لا أكترث إن بكيتُ ، أو إنتحبتُ بصوتٍ يجعل الموتى يقومون من مساكنهم ! لكني أريد أن أبكيَّ ، وأبللَ وجهي ؛ لعل الدَّمعَ يُخففُ حرارةَ حُـزني ، وهذا يكفي !
في غَمرة هذا الصراع الداخلي ، وإذا بصوتِ أُمّـه الحنون يسمعُه منادياً ، قاصداً إياه : قـُـم أيها الحالم ؛ فلقد أذن الصبحُ بالمجيء ، وهاهوالفجرُ يدّقُ أبوابَ الليل ؛ ليفتح للنهار ، قـُم ....! ، لقد كان يسمعُ صوتَ أمّـه بوضوحٍ تام ، وكأنها تناديه من الغرفة المجاورة .
- حسنٌ يا أمّـي سأنهض ! . أنهضُ ، أقومُ ! وهل أنا نائمٌ أم أني أحلم ، لا، لا لستُ بالحالم ، ولست كذلك بالنائم ؛ فأني أسمعُ صوت أُمي الحبيبة بمنتهى الوضوح وهو يأتيَني من الحجرة المجاورة ،أيُّ حجـرةٍ وأيُّ غُـرفـةٍ ثانيةٍ أو ثالثةٍ في هـذه الشقـة الضيّقة الرطبـة ِ ، والتي تكادُ لا تتسعُ لسريرٍ واحدٍ لشخصٍ واحـدٍ ، لا لا ، لابـدَّ أني لم أكن أحلم ؛ لأني سمعتُ صوتَ أُمّـي بوضوح وهي تطلبُ من إبنهـا أن ينهض ، نعم أنا اُبنُها وهي أمّـي ، إذن لا بـد أني أحلم ... أيعقل هـذا .. نعم يبدو الأمرُ معقولا ! لكن.....
- أما زلتَ نائمـــاً ياوحيــد ... ، هيّـا إنهضْ ، إنهضْ ، إنهضْ ؛ لنبرخَ ونرشم ولنذبحَ هذه البطّـة التي إدخرناها لمثلِ هذا اليوم ، ولتكن كما كنت دائمـاً ( إشكندا ) لي .و ...(هل تذبحُ النساء ومتى كان ذلك ؟ لا أتذكّر أمراً كهذ ) تساؤلٌ إخترقَ رأسَ وحيد ! نعم نعم ،أنا إشكنـدا واليومُ عيد ...وبعد قليل سيقوم أبي بعمل اللوفاني لأمّي، ولجميع الأحبّةِ الذين غادرونا بأجسادهم ؛ فأبـي يحتفظُ بملوايشهم جميعـــــاً ....لكنَّ أبي أخبرني بأن اللوفاني لا يصلحُّ على البـط ..... هنالك شيئٌ غريبٌ يحدث لي حتمـــاً ؛ فأبي قد غادرنا قبل اُمّـي ، وكلاهما ما عادا على وجـه الأرض ... ؛ لذا سأعملُ أنـا لهما اللوفاني هما الإثنين ، مهــــلاً مهـــلاً أين سأقوم بعمل هذا الطقس ، وأنـا في هذه الغُربةِ اللعينة ، وفي هذه الغرفةِ الألعن ،حيث لا توجد لـديَّ رسته ولستُ بالنظيف ، ولا يوجد من يُعيدُ صباغتي ، ومن سيكون لي إشكندا والماء الجاري أين أجـده في هذا الصقيع ! ،وعاد يقول لنفسه : لا تهتم...لا تهتم ؛ فالماءُ الجاري أمـرُه هيّـن ؛ فمـاءُ الحنفيّـةِ سيكفيك مشقّـة الذهاب لجلبِ الماءِ من النَّهر ، والإشكندا ما عاد يهمُّ في حالة الضرورة .... - لكن كيف أذبح ، وأين أذبح ؟
في هــذه الشقّـــــــة ! لا لا سيُخبرُ الجيرانُ دارَ البلديّـة وبعـدها إمّا السجنُ أو الغرامة أو كلاهما معــــا ( لا أعرف أين ومتى سمعت بهذه الجملـة - أو كلاهما معــــا – لكنها تعني وبلا شكٍ أني سأحبس وأدفع غرامة ماليّــــة .... ها ها هـا وكيف يدفعُ من لا يملكُ نقـــــداً ، وتذكّـر وحيد هنا أمـراً كان قد نسيه منذُ زمنٍ بعيد (ساعد الجابي بأصغر نقـدٍ كاف ) كانت تلك عبارة مكتوبة داخل باصات نقل الرُّكّاب في بغداد وكانت تلك الباصات الحمراء ،ذات طابقين والمُحصّل او كما كان يعرف بالجابي يدور بين الرُّكّاب ؛ لتحصيلِ ثمن تذكرة الركوب والبالغة وقت ذاك الخمسة عشر فلسـاً ، في الدرجة الاولى ذات المقاعد الجلديّة القهوائيّة اللون وعشرة فلوس في الكراسي الخشبيّة ... ماهذا الهُراء ، نعم ، نعم أمٌر غيرُ معقولٍ هذا الذي يمـرُّ بي الآن ؛ فإمّـا أن أكون محمومـاً أو سأجّـنُ من هذهِ الغُربـــةِ اللعينة و ..ووجد وحيدُ نفسَه وحيداً لم يغادر شقته الضيقة او غرفته الشقة.....لكنه عرف إن العيدَ غـــــــــــــــــــــداً