• Default
  • Title
  • Date
السبت, 11 تشرين1/أكتوير 2014

الحرارة الحية والحرارة الآكلة مفاهيم من الكنزا ربا

  قيس مغشغش السعدي
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

لا يؤمن العلم إلا بالملموس والمادي، وإلا بما يخضع لملاحظة وقياس. والمغالون ينكرون ما سوى ذلك، والمعتدلون يبقون الباب مفتوحا إزاء ما لا تدركه الحواس ولا تسجله أدوات القياس. وهنا مدخل علوم ما وراء الطبيعة والكون، رغم أنه لم يتم الوقوف إلا على جزء محدود جدا من مكونانتهما، وكذلك وراء علوم دراسة طبيعة البشر وبخاصة في النفس" نشمثا" في السايكولوجي والباراسايكولوجي.

Universal energy ومن الأمور الأساسية في الكون موضوعة الطاقة الحيوية الكونية
وأهميتها في الحياة وللحياة. حتى أن الكون بلا طاقة يعني إنتهاء الحياة فيه. والمعروف أن هذه الطاقة تتميز بعدة خصائص أساسية أهمها: أنها قائمة ولا تدمـَر، وهي قابلة للتحول والتغير، وليس لها خاصية معلومه فهي بدون شكل ولا أبعاد ولا يحدها زمن، وهي لا نهائية ولا محدودة، وغير معروفة المصدر.
وقد ثبت أن كل شيء في الكون، بل كل ذرة من ذراته، له طاقته الحيوية إن كان جمادا أو حيا، من أبسط صور الحياة في النباتات والكائنات ذات الخلية الواحدة وحتى أعقدها في الإنسان. بعضها ظاهر ملموس كما في الجاذبية الأرضية، وبعضها أكتشف حديثا كما في هالة الطاقة التي تحيط الإنسان والحيوان والنباتات. بل إن إعتماد بعض الأحجار في المعالجات البدنية والنفسية إنما يقوم على الطاقة الحيوية فيها.
وطالما أن الطاقة الحيوية للإنسان يمكن أن تتغير وتتحول فهذا يعني أنها يمكن أن تتأثر بالمحيط الذي يوجد فيه الإنسان. فمن يشعر بالكآبة لأسباب الحصر أو الفشل أو الفقد، فإن الطاقة الحيوية لديه ستفتر وتخمل وتعمل على جذب ما هو سلبي فيه، حينها يكون شعور الفرد بالإنهاك والتعب والكسل والخمول لا عن فشل أو قصور عضوي. وللعمل على تجاوز هذا الوضع ينصح الفرد بتغيير المكان أو الأشخاص أو البيئة التي هو فيها وهذا ما يطلق عليه بـ " تغيير جو" بمعنى تغيير المجال الذي أنت فيه لأن هذا التغيير يمكن أن يكون كفيلا باستدعاء الطاقة الحيوية الإيجابية والعيش بأجواء تعمل على تجاوز أجواء الكآبة، لأن البقاء بهذه الأجواء يستحث طاقتنا فتجذبنا إلى ما هو سلبي. وحين يعيش الفرد بأجواء سعيدة ويحقق النجاحات فإن ذلك سيعمل على إستثارة طاقته الحيوية لتجذب كل ما هو سار ومفرح . ولذلك ينصح دائما بأن يكون لك أملا وأن تكون متفائلا فذلك يساعد على حث الطاقة الحيوية الإيجابية لديك فتعمل على جذب السعادة ومواقف الفرح والإبتعاد عن كل ما هو حزين.
إن الطاقة الحيوية للأماكن والأفراد يمكن أن تأخذ أو تعطي بحسب طبيعة الظرف والفرد. فزيارة المريض في مستشفى يمكن أن تأخذ من الزائر بعضا من طاقته لأن المريض عادة ما تكون طاقته الحيوية ضعيفة، وهو يمكن أن يأخذ بعضا من طاقة الزائرين، ولهذا فإن الزائر يشعر بالتعب والإنقباض لأنه سيخسر من طاقته دون أن يدري، وبالمقابل فإن المريض سيشعر بالسعادة لأنه يمكن أن يحصل على طاقة إضافية من الزائرين. ولذلك ترانا ننقبض من زيارة المستشفيات ولا نحبذها. ومثل هذا يحصل في تأثير البعض ممن يسمّون بقوييّ الشخصية حيث تكون لهم القدرة على سحب طاقة حيوية من المقابل بما يشعره بالتسليم والإستجابة مقابل قوة المقابل في الإستحواذ والتأثير. وهذا وراء بعض الظواهر التي إتفق معها العلم مثل التخاطر والتنويم المغناطيسي، وأخرى ما زالت كما في السحر والحسد.
وجانب من الطاقة الحيوية لدى الأفراد وراء ما يصطلح عليه بالروح المعنوية التي يظهر فعلها في القدرة على الأداء بما لا يتعلق وقدرة الكائنات العضوية الإعتيادية. إنها تنبع من قوة الروح التي تزود الكيان بطاقة لا تتناسب وقدرته الفعلية في ظرف طبيعي أو العكس. فقد ترى نملة تحمل أضعاف حجمها، أو نحلة تسعى لتواجه دبا حين يقدم على عسلها أو عصفورا يواجه صقرا دفاعا عن فراخه، وقد يستسلم جيش كامل مقابل فصيل. فالروح المعنوية وراء النشاط والخمول، وهي مرتبطة بالطاقة الحيوية للكائنات. إن إستغلال موضوعة الروح المعنوية وراء الكثير من النشاطات والتوجيهات التي يقدمها المعالج النفسي للمرضى النفسيين لحث مجال الطاقة الحيوية الإيجابية لديهم.
ومثلما يمكن التأثير في الآخرين من خلال الأخذ والعطاء في طاقتهم الحيوية، فإن الماء مثالا طيبا في ذلك. فجميعنا يشعر بالراحة عند الإستحمام حتى حينما يكون الفرد نظيفا تماما، وما هذه الراحة إلا لأن الفرد حين يقدم على الإستحمام أو دخول الماء فإنه يتوجه وهو قاصد بأن يزيح عنه التعب والملل والإنزعاج والكآبة. ويعمل الماء عمله بأن يستلم هذه الجوانب السلبية من الطاقة الحيوية ويذهب بها بعيدا فتتحقق للفرد الراحة غير ما لو يستحم بأي سائل آخر. وهذه القدرة ربما هي خاصية في الماء، وخاصة الماء العذب، كونه عنصر مستجيب وماص للطاقة الحيوية إن كانت سلبية أو جامحة، فيريح في الحالتين. وهذا ما انتبهت له المندائية فجعلت الماء ليس مادة إستحمام، بل مادة التعميد الذي يزيل الخطايا وثقل النفس في تحملها للذنوب، هكذا يحس المتعمد الحق والراغب بالإنتعاش الكبير بعد تعميده وربما لأيام.
وبمقدار ما أن موضوع الطاقة الحيوية واسع ومتشعب ومجالات البحث والتجريب والإستقصاء فيه قائمة وتزاد كل يوم بزيادة قدرة الأدوات التكنولوجيه على الوقوف عليه، فإن ما يعنينا حقا هو ورود هذا الأمر في الأدب الديني المندائي وبخاصة في كتاب الكنزا ربا. وأن الإشارات الواردة بخصوصه تعطي القيمة التي تم الإنتباه لها بأنها وراء قدرة الأشياء على الفعل والحركة، فثبتها المندائية في كتابها على قدمه.
تسمى الطاقة الحيوية في الأدب المندائي الحرارة الحية: إشاثا هـيثا. ومقابلها الحرارة الآكلة: إشاثا إخِلتا.
فالطاقة الحيوية يمكن أن يكون لها وجهان أحدهما إيجابي فاعل وأساسي والآخر مدمر. والحق أن هذه الطاقة موجودة أصلا بشكل متوازن، فإن قلت إدت إلى الخمول حد التلاشي والتوقف، وإن زادت أدت إلى الغلو حد الإحتراق والعصف والهيجان.
ويرد في نصوص الكنزا ربا تسلسل وجود الحرارة الحية" الطاقة الحيوية"
( من الحي كان الضياء العظيم، ومن الضياء العظيم كانت الحرارة الحية).
هذا يعني أن الطاقة الحيوية متضمنة أصلا في أول الإنبثاقات عن الحي العظيم وهو الضياء العظيم.
ويرد: ( ومن الحرارة الحية كان النور) فالنور مصدره الطاقة الحيوية، وهذا يظهر بشكل جلي في نور الشمس، إذ لولا الطاقة الحيوية في الشمس لما كان منها النور، ولا الحرارة المطلوبة والمحسبوة.
ويرد: ( وتوجني بإكليل الحرارة الحية) وهذا ما صرح به مندا ادهيي حين كلفته الحياة بأن ينزل ويقارع تمرد يوشامن الحياة الثانية والأثريين الذين تكونوا منه. فالحرارة الحية إذن سلاح فتاك. بل أنه يعاب على أثريي يوشامن بأنهم تركوا الحرارة الحية وأحبوا الحرارة الآكلة التي تأثيرها سيء ويقود إلى ما هو شر وفتك.
وحين نزل الملاك بثاهيل ليكثف الأرض وكان قد تجبر ولم يتقن أعماله، تصور أنه بقول منه سيتم له ذلك. إلا أن قدرته تكمن فيما لديه من طاقة حيوية، ويذكر النص في الكنزا ربا ( ما كاد ينطق حتى رأى الحرارة الحية تتبدل، فاعتصر قلبه وأجفل، وقال: أنا ابن أثري، فلماذا تبدلت الحرارة الحية). فشكى لأبيه أباثر الذي صلى للحي فزوده بالحرارة الحية، وبها تمكن بثاهيل مرة خرى من أن يحلها في الماء فتصلبت الأرض، ومنها كان الكون. وهذا يوصلنا إلى ما يسجله العلم في إحدى خصائص الطاقة الحيوية أنها قابلة للتبدل والتغير.
ويرد أيضا: ( من بيت الحي صارت الحرارة الحية والماء الحي) فالطاقة إذن مثل الماء وسرها مثل سره مازالا إعجازا وتحديا أمام الإنسان بما يقود أنهما شأن النفس من خلق الخالق.
وفي عالم الأنوار، الحرارة الحية سر الوجود وقيمة الحفظ وإمتلاك سرها وراء البقاء، ولذلك لا يعرفها غير الحي، فمندا اد هيي على عظمته لا يعرفها إنما زوِّد بها وأتى بها ( بطرفة عين أتى مندا اد هيي، ومعه الضياء والحـرارة الحية الأولى، ومعه النور من بيت هيي.) وهو يعرف أن سرها من الحي العظيم الخالق وليس لأي القدرة على الإتيان بها، ويرد (وتحدث مندا اد هيي لآنوش الصغير عن سر الحـرارة الحـية التي لم تسمع بها الروها ولا شياطينها الماردون. ولم يعرفوا سوى الحـرارة الآكـلة التي عنها يتحدثون). ولأنه يعرف سرها نجد أن يحيى بن زكريا يطلب من الملاك مندا اد هيي بقوله ( ساعدني على أن أعرف أسرار الملائكة، وثمر النور العظيم، وسنادين الأرض وأثمارها.. والمياه الجارية وما يدفع تيارها.. والحـرارة الحـية وانتشارها).
أما في الكون فما غرسه بثاهيل كان ناقصا بإشارة إلى أن الكون يمكن أن يفنى أو يفسد أو تظهر فيه من الظواهر التي لا تشير إلى الإتقان، وهذا بفعل الحرارة الآكلة المقابلة للحرارة الحية. وكأن الحرارة الآكلة هي الجانب الهدام من الطاقة الحيوية. أو أنها الجانب غير المسيطر عليه في تهييج ما في المواد من طاقة. فالريح عليلة بنسيمها ومدمرة بعواصفها، والماء سلسبيل بطبيعته وجريانه وطوفان بهيجانه، والنار دفء وضوء بمقدارها وحريق مدمر بلهيبها وإوارها. وعلى هذا رُبطت الروها بالحرارة الآكلة، فالشر له طاقته الفتاكة والقضاء عليه يكون بسحب هذه الحرارة أي الطاقة منه فيعود هامدا رمادا. ويرد (السماء فيها الماء، وفيها الحـرارة الحية ماثلة. أما النجوم فتنتشر في الحـرارة الآكـلة، وهي داخلها تشع بالضياء بقوة الحـرارة الحـية في السماء).

والحرارة الحية أقدم من الحرارة الآكلة، وهي المطلوبة للحياة. فبهذه الحرارة وتنظيمها وثبات درجتها تكون الحياة وتعيش الكائنات الحية، وإن زادت أو قلت بمقدار بسيط كان ذلك سببا في الوفاة وتوقف الحياة. فانظر ضبط حرارة الإنسان، ومنه ضبط حرارة الرحم بيت الجنين، وضبط حرارة تفقيس البيض، وضبط الحياة حرا وبردا. بل أنظر إلى الشمس لو كانت أعلى بكيلومتر واحد لحصل الإنجماد ولو هبطت كيلومترا واحدا لحصل الجفاف والإحتراق. وما هذا إلا لكمال الخلق ودقة ميزانه. وكلما علمنا صرنا أكثر إندهاشا وإيمانا بمن وراء الخلق. فسبحان الخالق هيي قدمايي: الحي الأزلي.

الدخول للتعليق