• Default
  • Title
  • Date
السبت, 13 كانون1/ديسمبر 2014

برديصان الآرامي ... ناصورائيِ الفكر.. مندائيِ الكلمة

  عداد : عزيز عربي ساجت
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

من ديصاي الصغير أتعلم ، جالس بين ماء وماء ، انا دنانوخت .. الكاتب الحكيم .. حبر الالهة الفخور المتكبر ، كتبي بين يدي ، وسجل ذكرياتي على ذراعي ، في الجديدة أتامل ، ومن القديمة أتعلم ، فأُميز ما كان ، وما هو كائن ، وما سيكون .
ديصاي الصغير سقط أمامي ، فتحته ، وتأملت فيه ، صغير هو ... لكن كبيرة اقواله ومعانيه ، بحث في القصر العالي ...) من هذه الصورة التعبيرية نستشف ان المعرفة والحكمة الاساس كانت من ديصاي الكلمة .
تتردد دائماً في تاريخ الشعوب منذ الاف السنيين أسماء رجال وشخصيات كبار تركوا أثاراً لهم في الفكر والحضارة الانسانية تتناقلها الاجيال وتضيف عليها صفات عديدة قد يشترك في تكوينها كثير من الاجيال في عصور وامكنة مختلفة ، وقد تختلف حول ماهية هذه الأسماء وحول مزاياها وقيمها وافكارها ولكنها تبقى نبراساً لامعاً يضيء الطريق لنا وللاجيال اللاحقة لنستشف منها العبرة والموعظة والكلمة الطيبة والمفيدة على مدى الايام .
ومن بين هذه الاسماء الكبيرة واللامعة الفيلسوف والحكيم والشاعر برديصان الارامي ( 154- 222 م) ، ولدت أفكاره في بيئة الرها ومن افكار الأسينيين في اورشليم والشام والتي أنتقلت الى بابل وطيسفون ( المدائن ) .
ولد هذا الفليسوف والحكيم الخالد وابن مدينة الرها على ضفة نهر ديصان ( الوثاب ) فسماه والده ( برديصان ) ابن النهر ديصان تيمناً بقدسية النهر المذكور . وكانت أمه حبلى به عندما هاجرت إلى الرها وولدته على ضفاف نهر ديصان المار بالرها لدى وصولهما إليها فسمياه برديصان أي بمعنى "ابن ديصاي". وقد لقب نسبه المؤرخون الرومان والفرس القدماء إلى عدا مناطق فدعاه سيكستوس يوليوس أفريكانوس ب"البارثي" بينما لقبه فرفريوس بالبابلي، كما لقبه هيبوليطس الرومي بالإرمني .
وكان والده آرامي الاصل من اربيل عاصمة حدياب ، ثم هاجر الى الرها عام ( 154) م وعاش في الرها حتى عام (163م) ، ثم ارتحل مع ابنه ليدرس الفكر الديني السائد انذاك والفلسفة اليونانية في مدينة منبج (هيرابوليس ) على يد الكاهن الارامي قدوس ( Kaddos ) ، فتعلم اللغتين اليونانية والعربية وتعاليم الديانة الفيثاغورية ، وتاثر برديصان ايضا بالفلسفة البابلية التي كانت منتشره هناك ، وتعلم نظم الشعر اللازم للطقوس المانوية ، كما تعلم الفلسفة وعلم الفلك ورصد النجوم ومارس الرماية ، وفي عام (179م ) عاد الى الرها والى بلاط بار الابجر معنو الثامن ( 179- 214 م) ، وكان الحاكم العربي للرها انذاك ، والذي تلقى تعليمه في طفولته وشبابه معه ، انتقل برديصان إلى منبج بسبب انتشار القلاقل السياسية في الرها وهناك في عمر الخامسة والعشرين حدث أن سمع برديصان موعظة ل"هيستاسبس" كاهن الرها فتأثر بها وتعمد على يده كما تذكر الكتب اليسوعية . وخلال تلك الفترة تمكن رفيق طفولته أبجر التاسع من الوصول إلى الحكم في الرها فعاد برديصان إليها واحتل مركزا هاما في بلاطه الملكي .
وكان برديصان يؤمن باله واحد خالق الكون والانسان والدور الكبير للملائكة في الحرية والعبادة ، ويتكون الانسان في رايه من عقل ونفس وجسد ، والجسد يتأثر بتدبير النجوم والكواكب السيارة في الحياة وبعد الموت ، بينما الانسان الحر في ارادته لهذا يعاقب تبعاً لاعماله في الحياة بتطهير روحه ، ثم ترتفع روح الانسان الى عالم النور البهيج .
وكما ورد في اللاهوت المندائي حول هذه النقطة ، التي تمثل الرموز الثلاثة المذكورة ، بمعناها الديني صيرورة الانسان من ابناء النور واكتساب الخلود الروحي ، والارتقاء في عالم الانوار عن طريق الاتحاد بالشبيه وبالمعرفة الحية ، والتي يمثل في مضمونها وحدة الانسان ( نفس وروح وجسد ) اي ( نشمثا و راها و بغرا ) بمكوناته الثلاثة ليكون كاملا في عبادته وتسبيحه للحي العظيم ، والتي تمثل النفس بمعانيها السامية نسمة الحي العظيم وهي كائن نوراني موجود في عالم النور ، اما الروح هي صفة مكملة للنفس وتتمثل بالغريزة التي يسيطر عليها عوالم النور ، اما الجسد عبارة عن وعاء يضم النفس والروح ليكون بمكوناته الثلاثة رسالة الحي العظيم المباركة في الحياة .
فبرديصان حسب تعاليمه يعتبر رائد الفلسفة والحكمة الغنوصية ، ونتيجة لهذا رفض رجال الكنيسة المسيحية تعاليمه واعتبروها نوع من الهرطقة او الزندقة في المفهوم العربي ، لانه ربط بتعاليمه النيرة فكرة الخلاص الانساني بالمعرفة الالهية و( الناصيروثا ) التي تعني العلم والمعرفة وكلمات الحق والصدق التي جاءت من موطن النور، فان تعاليم الخلاص المندائية ( الناصورائية ) تجسدت في تخليص النفس من محطات التطهير والعودة بها من تيبل ( الارض ) الى موطنها الاصلي عالم النور ، والتي تمثل ذات اللاهوت المندائي في الغنوصية ، وهي نفسها التي كانت تكفرها الكنيسة ، ولا تعترف بنعمة الخلاص اي الفداء الذي قدمه السيد المسيح من اجل الخلاص اي خلاص البشرية من الذنوب وحصول الذات على الحرية .
لقد تجسدت الثنائية في الادب المندائي في حالتين وهما : جانب عالم النور ( آلما دنهورا ) والكائنات النورانية ، وفي الجانب الاخر عالم الظلمة ( آلما دهشوخا ) والكائنات الشيطانية ، ان الظلام خصم للنور ، لانهما يمثلان الشمال واليمين ، روح ونفس ، شمس وقمر، ليل ونهار ، ارض وسماء .
وحسب هذه النظرة فإن هذين المبدأين مُهمين ويحتاج بعضها البعض ، وبكلمة اخرى إنهما مكملات لجسد واحد ، الخير والشر موجودان منذ البداية ، وقد اكدت المعتقدات المندائية القديمة على هذه الناحية الجوهرية بالقول : لقد انبعثت عوالم النور والكائنات النورانية من ( مانا الجبار ) او الحياة ، بينما انبعثت عوالم الظلام والكائنات الشيطانية من اللاتكون او من المياه السوداء او المياة الآسنة .
كانت العلاقة بين برديصان وماني فيلسوف بلاد فارس علاقة بما يمثله ماني باعتباره النور العظيم الاول حب وايمان ومرؤة وحكمة ، ولادته في عام 216م على الارجح في مدينة كرخا اي مدينة ميسين قرب المحمرة الحالية ، ويرجح ان اهله انتقلوا بعد ذلك الى مدينة جند يشابور اي ( بيت لافظ ) . يعد الداعية ماني شخصية جدلية ، سواء طريقته في ابتكار المانوية او دعوته بالنبوة او في حياته الشائكة او في وفاته الغامضة ، برزت المانوية كما هي المزدكية في العراق وفارس في منتصف القرن الثالث للميلاد ، حينما دعى الفرس الى دين او مذهب جديد يختلف عن الزرادشتية سمي بالمانوية ، وكانت افكاره الفلسفية قد تأثرت بالمعتقدات الدينية في المنطقة انذاك ومنها الناصورائية - المندائية التي كانت منتشره في جبال ميديا والاحواز واهوار ميسان ، وقد سار على خطى افكار والده فدك الناصورائية ، بعد ان انتشرت افكار الفيلسوف الروماني الغنوصي ( اوريكين ) في مصر وفي طورعادين التي تأثر بها الشاعر والحكيم برديصان الذي كان يعيش هذه المنطقة في تلك الفترة ، لقد اخذ ماني بتعاليم وافكار برديصان الفلسفية والعقائدية وهو يكاد يقتفي أثاره خطوة بخطوة .
لقد ذكره المسعودي ( 325 ) هجرية في كتابه ( مروج الذهب ) : ( ذكر ماني في كثير من كتبه المرقونية والديصانية بل انه أفرد لمرقيون بابا في كتابه المعنون بالكنز (اي كنز الاحياء ) وللديصانية باب في كتابه سفر الاسرار .
وقد عرف افكاره وتعاليمه علماء الكلام المسلمين ودارت ابحاثهم حول معظم ما ذكرته كتب فلاسفة الاغريق والسوريين ، وكان البيروني على اطلاع واسع على الثقافة الارامية والسريانية فهو يقول ( اكد ابن ديصان ان نور الحي قد دخل قلبه ).
كما ذكره الدكتور أسعد صوما أسعد في كتابه : لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية في جزئه الخامس ، والذي صدر له كتاب اخر بعنوان ( مار أفرام : حياته ومؤلفاته ) باللغة السويدية في ستوكهولم عام 2005 م ، وهو باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم جاء فيه : يذكر الفيلسوف برديصان الارامي الرهاوي ( 222- 154)/ ان القديس الشاعر مار افرام يطلق على برديصان لقب الفيلسوف الارامي وكذلك بفيلسوف الاراميين ، لان السريان لغاية أيار مار افرام في القرن الرابع الميلادي لم يكن يسمون انفسهم سرياناً بل اراميين لكن اليونانيين كانوا يطلقون او يسمونهم سرياناً ، الذي قال فيهً : فهو يعتقد أنه له الكلمة الآخرة.
يا برديصان،
يا ابن نهر ديصان،
يا من فكره سائل (سريع التغير)كسيولة اسمه .
لقد اختلف اللآهوتيون والمؤرخون القدماء حول اعتقادات برديصان وافكاره ، فبحسب كتاباته كان قد حاول ربط مبدأ ( الله ) الخالق والملائكة وتاثير الكواكب والنجوم على بني البشر .
المصادر
- الكنزا ربا - اليمين - كتاب دنانوخت / الثامن
- الثنيوية في التفكير / حسن سعيد الكرمي
- الزندقة والزنادقة / تاريخ وفكر/ محمد عبد الحميد الحمد
- هرمس / المثلث العظمة / لويس مينار
- التاثير الارامي في الفكر العربي / محمد عبد الحميد الحمد
- محمد عبد الحميد الاحمد / الديانة الايزيدية بين الاسلام والمانوية .
- الموسوعة الحرة / ويكيبيديا .
- سيناثي كندوز / ترجمة سعدي السعدي / معرفة الحياة .

 

الدخول للتعليق