• Default
  • Title
  • Date
السبت, 25 تموز/يوليو 2015

مفهوم الكراص المندائي ...باجزائه الثلاثة

  عزيز عربي ساجت
تقييم هذا الموضوع
(1 صوت )

مفهوم الكراص المندائي .. ج1
لقد تطورت قصص الإسراء والمعراج عبر الأجيال ، ونمت نمواً واسعاً ، وتدرجت حسب السُلم التاريخي لها ، متكاملة في المعنى والاطار، وتحولت بمرور الوقت الى رؤيا رمزية لدلالات فلسفية وسياسية ودينية وحضارية ، واتخذت طابعها الثقافي في التأثير والتأثر في المجتمعات على مر القرون والعصور كما في الحكاية والاسطورة ، وقد ساعدت نزعة الهضم والاستيعاب التي رافقت نزعة الكتابة والتأليف في وضعها بصيغ جديدة ، من مصادرها المختلفة في التراث الرافديني الخالد كأور وبابل وماري من حضارات الشرق القديم والحضارة الفرعونية في مصر السفلى - ممفيس ومصر العليا - طيبة ، والفينيقية والآرامية ومن أمجاد الرومان والفرس السياسية ومن منجزات أثينا وروما العلمية والفلسفية ، واستوعبت عنها الافكار في المعتقدات والديانات القديمة ، الناصورائية ( الصابئية – المندائية ) ، اليهودية ، المسيحية ، الاسلام ، الهندوسية ، الزادشتية ، البوذية ، السيخية ، الجانتية ، الأيزيدية وغيرها ، كذلك في البُدع الغربية الحديثة ، عن مفهوم وحدة الخالق وعن الأثريون الملائكة والارتباط الفلسفي والروحي بينهم وباختلاف المقياس الزمني لكل منهم .
هذه الانواع كلها ينتظمها مفهوم التعدد للاثر الادبي الواحد او القصة الواحدة ويعطي خصائصها الواضحة لهذا الارتباط ، كما هو الملاحظ في الادب العربي قبل الاسلام في الجزيرة العربية ، المعلقات السبعة او قصص عنتره او ملحمة كلكامش او زيوا سدرا او ملحمة الطوفان في اقدم صورها ، او في الروايات العبرية عن انبياء بني اسرائيل والانجيلية عن المسيح ، وفي روايات امية بن ابي الصلت الحنفي في الطائف ، و المتصوفة مثل البسطامي وابن عربي في معراجه ( باب العقل الأهبة الى الإسراء ) ، وابي العلاء المعري في رسالة الغفران ، فريد الدين العطار في ادب الرحلة الصوفية ، و( ثورة في الجحيم ) للشاعر جميل صدقي الزهاوي ، والشاعرمعروف عبد الغني الرصافي في كتابه ( الشخصية المحمدية ) ، وفي كتابات عصر النهضة الاوربية ، والكوميديا الالهية للشاعرالإيطالي دانتي اليجيري ، ومعراج الشاهنامة الفارسية للشاعر فردوسي .
ان تعدد الروايات لا ينفي وحدة النموذج واصالته في المعايير الابداعية للخلق الادبي ، كما انه لا ينفي التفرد والتميز لكل صورة ، او رواية او لجانب من جوانبها ، والتي دخلت اليها عن طريق التصوف والفلكلور الشعبي ، كما دخلت عن طريق التراث الديني الحي الذي تناقلته الاجيال كابراً عن كابر ، وكما هيَ عند النساخين والشعراء.
ان صور وقصص الاسراء والمعراج إنما تستمد عناصرها من الاحاديث والمعتقدات الشعبية والدينية المتوارثة وعن الملائكة والمخلوقات النورانية وصور الجنة والجحيم والنعيم ومحطاته المتعددة ، كما في وصف العرش والملائكة الصالحين اي الأرواح الخيرة ، و الشيطان واتباعه اي الأرواح الشريرة ، النابعة عن الخيال الشعبي والتي ترجع بالأساس الى أصول سامية ومندائية قديمة قبل ان تنهل منها المعتقدات اللاحقة .
ومؤثرات المعراج والاسراء لم تقتصر على الآداب التركية والفارسية والأوربية بل تعدت ذلك إلى أشكال التعبير الأخرى كالخط والرسم والايقونات والمنمنمات الطقسية الاخرى ، التي لها بنيتها المعمارية والرمزية ودلالاتها الروحية ومصاحباتها الفكرية والحضارية ، وعلى أهمية هذا الأثر لا من الناحية الدينية والروحية فحسب ، بل من الناحية الجمالية والفنية كما في رسومات ليوناردو دافنشي وغيره من رواد عصر النهضة الاوربي .
يمتاز الاسراء والمعراج من حيث الأسلوب بالخصائص التالية : الرمز ، التصوير الفني ، البناء المعماري ، فالصوفيون يميلون الى الرمز ، اما الفولكلوريون فألميل الى الوصف والتصوير والمنحوتات ، اما البناء القصصي حيث يختلف من حيث الخطط العامة إلا ان معماريتها تمتاز بخواص أدب الرحلات كالأوديسة وأُوديب والالياذه لهوميروس ، وقبلهما ملحمة كلكامش وعشتار ، وهذه نراها في قصص الف ليلة وليلة في رحلات السندباد البحري وعلاء الدين ونجم الدين وفي السحر الاسود والسحر الابيض ، وفي اسراء الرسول العربي ومعراجه من البيت الحرام الى بيت المقدس - جدار المبكى اليهودي ، الوارد ذكره في القرآن ، هبوط وصعود الملاك الصالح هيبل زيوا الى العالم السفلي ( الما ريشايا زوطا ) لكبح جماح عالم الظلام ( عالم الروهة - أور وايواث - زرتاي وزنتاي - هاغ وماغ - كاف وكافان - انانات وقن ) ، والعودة من جديد الى العالم العلوي ( الما ريشايا ربا ) ، وعروج النبي شيتل بن آدم وسام بن نوح ( شوم بر نو ) ويحيى ( يهيا يهانا ) الرسول الى ( الما دنهورا ) عالم النور بأمر من هيي قدمايي كما جاء في الكتاب المقدس ( الكنزا ربا ) ، وعيسى المسيح الى السماء بعد اليوم الثالث من صلبه وكما ورد في الكتاب المقدس ( الأنجيل ) ، واختفاء موسى النبي في جبل نبو الذي في ارض موآب قبالة أريحا الفلسطينية وبأمر الرب يهوه ، حسب التعاليم التوراتية ، كل هذه قرائن لا تقبل التأويل عن احداث بشكلها المعهود وفق صورها الرمزية المنقولة ، تعطي طابع الخيال المُبهر والابداع الفني بالوانه ورموزه وصوره .
ان وصف الملائكة ووجوهها المتعددة او ملائكة العناصر التي تعكس التعدد في الوحدة من اكثر الابداع والتركيب الضمنى لحالة الاسراء والمعراج الديني في الصعود والنزول الى خالق الكون عبر الاثير السماوي الساكن في الشمال ، وما تمتاز به الملائكة من سهولة الحركة في تنقلها بأمر صاحب العرش والعظمة حسب هذا المنظور .
تتجلى صور الاسراء والمعراج باعتبارها وثائق فكرية تصورية فيما وراء الطبيعة ، تزودنا بأنماط من وجهات نظر مختلفة عن صلة الانسان بالخالق وصلة الانسان بالكون وصلة الله بالانسان ، والانسان بالانسان حسب هذا المفهوم ، وتلقي أضواء كاشفة على المعتقدات والأنظمة الروحية والاجتماعية وخاصة في التصوف الديني المعروف اليوم .

مفهوم الكراص المندائي ..ج2
ان المرحلة الاولى لبدء الخلق حسب المعتقدات المندائية الواردة في الكتب الدينية ان مكونات عالم الظلام قد هُزمت من قبل الملاك الصالح هيبل زيوا اثناء رحلته الخيرة لعوالم الظلام ، من اجل تهيئة الارض ومن اجل آدم وتكوين النسل البشري ، وان جميع هذه العوالم تمر بها النفس والروح اثناء انفصالها عن جسد الانسان وعروجها وصولا الى العالم المثالي ( مشوني كشطا ) ، فكانت التراب (الذي يقابلها ( الحم ) ، الريح ( الاعصاب ) ، الحرارة ( الدم ) ، الماء ( العظام ) ، والتي تمثل بالرمز ( الاسكندولة ) المندائية .
وحسب هذا المفهوم نرى ان عروج وخلود الروح اي (النيشمثه )* عند المندائيين تمر من هذا الباب ، لذا يعتبرها المندائيون سجينة الجسم - بغرا ، في عالم الظلام ( المي ادهشوخا ) وفي يوم ما تتخلص من هذا السجن عائدة الى عالم النوار ( المي ادنهورا ) ، اي بعد انتقالها من العالم المادي الى العالم الروحي تاركة الجسد الفاني ، بعد ان تحاسب على قامت به من اعمال في الدنيا من قبل ( الملاك أواثرمُزنيا ) في ديوان أبآثر ( الميزان ) أي يقابلها عند اخواننا المسلمين ( منكر ونكير ) وفق موازين توزن به هذه الاعمال ان كانت كل اعمالها صالحة نقية تذهب الى عالم النور ، وان كانت اعمالها سيئة تُعاقب بعقاب تتفاوت درجات تعذيبية حسب نوع السيئة التي اقترفها فتلتحق بالعالم الاعلى بعد انعتاقها ، لذا تقام لها وجبات طقسية ( ساموراي ) لاعتقادهم بخلودها وعروجها مرة اخرى .
لان الديانة المندائية تؤمن بالعوالم الكونية الأخرى وبخلود الروح وعروجها الى خالقها الاول كما اشارت الكتب الدينية والميثولوجيا المندائية وعلماء الدين . ويلاحظ هناك اوجه موازنة متعددة بين الافكار والشعائر السامية والزرادشتية والمثرية والتي ترتبط فيها الشمس واشخاصها وابطالها ورموزها بمبدأ الحياة الالهية الابدية .
وقد ركز عدد من الكتاب على بعض المعتقدات المندائية بالقول :
ان الطقوس المندائية المتوارثة عبارة عن مزيج بين روحانيات الهرمزية ( الإدريسية - المصرية ) والحرانية / الشامية ، وفيها جوانب من تقديس رموز الكواكب البابلية مثل القمر ( سين ) والشمس ( شامش ) ، والزهرة ( دلبات ) وغيرها من الكواكب السيارة ، اضافة الى هم على ملة نباط العظيم.
والاعتقاد السائد بان المندائيون يعطون اهتمام كبير للبروج ولهم في هذا كتب ودواوين منها كتاب البروج - أسفر ملواشة ، وهو مخطوط لاغراض التنجيم والفلك ، يستخرج منه الاسم الديني لكل فرد مندائي ، ويستعينون به الشيوخ لمعرفة الحوادث الزمنية ولمعرفة البرج الذي ولد فيه الشخص المندائي فيستنبط منه الطالع ، والاحداث المهمة في بداية كل سنة مندائية جديدة ، كما في ديوان ترسرالف شيالة ( 1012) سؤال .
يعتقد بعض الكتاب ايضا ان كلمة الصابئة قد اشتقت من كلمة السابئة بتحويل الصاد ( سين ) في اللغة ، و يقدسون الابراج و الكواكب السبعة كونها منازل الملائكة ، ثم اسقطت العين في كلمة سبؤوت او سبوت اي اليوم السابع ، وان المعلم الاول في المندائية هو ( دنانوخت )*الذي جاء ذكره وتعاليمه في الكنزا ربا - الجزء الايمن - الكتاب الثامن ، واضع اسس الاعياد المندائية ، ومهندس الاهرامات الفرعونية والزقورات ، وتعليل ذلك لان المندائية ديانة معرفية ، فالديانة المندائية لها ىارتباط روحي كبير بالملائكة والاثريين والاعتقاد السائد حسب ما جاء بكتبها المقدسة وبتعاليم انبيائها ان الملائكة تسكن في ابراج النجوم والكواكب ولها تاثير مباشر على حياة الانسان والطبيعة والكون وهذا ما اكتشفة العلم مؤخرا ، لهذا عرف المندائيين الكراص من خلال هذا الارتباط ، وقد برز في هذا المجال من الصابئة ثابت بن قرة العالِم العظيم في الهندسة والفلك والفيلسوف والمترجم ، ثابت بن سنان الطبيب والعالِم بالظاهر الجوية ، كذلك البتاني عالم الفلك ، أبي الخطاب الصابي ، ابن وحشية صاحب كتاب الفلاحة النبطية ، اضافة الى العلماء المندائيين في هذا العصر ، الدكتور الراحل عبد الجبار عبد الله ، والدكتورعبد العظيم السبتي .
اما التقويم الذي تبدا به السنة المندائية هو الشهرالاول - أول ستوا اي ( قام دوله - برج الدلو ) - شباط الميلادي وتحتوي على 365 يوما فقط ، وليس فيها سنة كبيسة ، وهي تقسم الى 12 شهرا ، كل شهر ثلاثون يوماً ، وتعتبر خمسة ايام الزائدة شهرا منفرداً ، عيد الخليقة ( البنجة ) ، اما بدأ التقويم فهو حسب التدرج التأريخي للأنبياء المندائيين فيقسم الى ثلاثة :
الاول : بدا الخليقة وهبوط آدم ، وهو اول تاريخ يضبط به السنون .
الثاني : عام طوفان نوح ، وهو الأمد الثاني لتحديد السنين .
الثالث : ولادة يحيى _ يهيا يهانا ، ويختلف عن التقويم الميلادي بستة اشهر، ويتخذ منه المندائيون تاريخا لامورهم الدينية وشؤونهم الشخصية .
هامش :
*النيشمثه: اي النفس وهي نسمة الحي العظيم التي اودعها الملاك الصالح منداد هيي في جسد الانسان وهي كائن نوراني موجود في عالم النور ، اما الروح هي صفة مكملة للنفس وتتمثل بالغريزة التي تسيطر عليها عوالم الظلام ، اما الجسد عبارة عن وعاء يضم النفس والروح ليكون بمكوناته الثلاثة كاملا غير منقوص رسالته اي رسالة الحي العظيم العظمى حسب المعتقد المندائي .
*دنانوخت : او هرمس او اخنوخ او بوذا سف او ادريس ، كلها اسماء لشخص واحد وهو الحكيم والمهندس والنبي صاحب المواعظة والحكمة في قول الكلمة في كتاب ، وكما جاء في كتابنا المقدس - الكنزا ربا - في وصاياه الجزء اليمين - الكتاب الثامن: ( باسم الحي العظيم ، جالس بين ماء وماء ، انا دنانوخت ، الكاتب الحكيم ، حبر الآلهة الفخور المتكبر ، كتبي بين يدي ، وسجل ذكرياتي على ذراعي ، في الجديدة أتامل ، ومن القديمة أتعلم ، فأميز ما كان ، وما هو كائن ، وما سيكون... ).
لكن مهما يكون يعتقد ان هرمس الحكيم عاش في تراثنا لآلاف السنين ، تنازعت عليه الامم فاعتبر مصريا وبابلياً وفارسياً وهندياً ويونانياً ورومانياً ، ونسب اليه علم الطب والفلك والفلسفة والحكمة ، وأحصي ما نسب اليه من كتب ومؤلفات فكانت عدة آلاف . والمعروف عنه انه شخصية موغلة بالقدم ويكتنف الغموض أصلها وانتماءها العرقي ، ولعل هذا التضارب يعود الى تلك المرحلة البعيدة من الاختلاط بين شعوب الاقوام التي كانت تعيش في البقاع التي كانت تُشكل مركز العالم القديم ، جزيرة العرب وبضمنها اليمن ، وامتداداتها بلاد الشام وبلاد الرافدين ثم مصر ، وتلك المناطق الاخرى المجاورة ، بلاد فارس والأنضول وما وراء البحر بلاد الهند واليونان والرومان.

مفهوم الكراص المندائي ..ج3 والاخير
اليكم هذا الدعاء بمناسبة الكراص السعيد : ( بأسم الحي العظيم ، اللهم هبنا بعضا من نورك ، واعطنا بعضا من ضيائك ، سندخل بنورك ونخرج بضيائك ، وننهض باسمك ونبقى أقوياء بصفتك الصادقة ، والحي المزكي ( سيدرا اد نشماثة ) .
فلسفة وفائدة الكراص
كلمة الكراص في كتب اللغة : كلمة مأخوذه من كلمة كرز بمعنى دخل واستخفى في غار ونحوه ، ويقال كرز في المكان اختبأ فيه ،هذا ما جاء في كتاب المعجم الوسيط ، وهذه المعاني الواردة كلها قريبة من معنى الكرصة او الكراص حين يلزم الصابئة المندائيون بيوتهم مدة ست وثلاثين ساعة تبدأ من غروب شمس نهاية السنة المندائية ( كنشي وزهلي ) حتى شروق اليوم الثاني من السنة المندائية الجديدة . وقد حدث ابدال (الزاي ) صادا لتقاربهما في الصوت وهذا شائع في لهجات العرب ، وشاع استعمالها بيننا واخذت مدلولا خاصا لدى الصابئة المندائيين .
ومسألة الكراص المندائي رغم كونها ظاهرة تراثية فلكلورية متوارثة ، كالمتعارف عليه عند بقية الاقوام والشعوب ، لكن في جوهرها مضامين فلسفية وفكرية ودينية تتجلى في اسمى صورها لما تتمتع به من معاني كبيرة عن الحياة وعن الخالق وملائكته الاثريين ، وعن الصراع الابدي القائم بين قوى الخير والشر بين النور والظلام على مر العصور والدهور ، والهدف الاسمى هو الحفاظ على كيان الانسان وديمومته في تعمر الارض ونقاءها ، وتعطينا دروسا ذات قيمة عن معنى المحبة والتكاتف والتعاون بيننا ولم شمل العوائل المتباعدة بسبب الظرف في يوم مقدس مثل يوم الكراص المندائي .
لقد جًعل من وصايا النبي والحكيم دنانوخت ، أعياداً للصابئة ، وفي أوقات معروفة ، فالشمسية منها تتزامن ودخول الشمس رؤوس الأبراج ، أما القمرية فعند رؤية الهلال ، ( كما لمح لها المؤرخ القفطي علي بن يوسف في كتابه - تاريخ الحكماء - المتوفي عام 1248م ) ، ( ولبس البياض على نعت ملتهم - ملة إبراهيم الخليل - بالحنفية البيضاء ) . ويعتبر عيد السنة الكبير ( التكريص ) ويسمونه ( الضحوة ) أو التقدمة ، او الأضحية الكبرى ( دهوا ربا ) وهو ذكرى هبة الله الحياة أو النسمة ، أو الكلمة أو الأمر الذي كان به آدم الإنسان الاول الذي عمر هو وأبناءه الأرض ، فبناها لأول مرة . يقع هذا العيد في اليوم الأخير من السنة المنتهية ( نهاية كانون الثاني ) وهو يوم الاجتماع والنقاء ، إذ يرتدي فيه المندائيون الملابس البيض ويصطبغون ( يتعمدون ) وينظفون بيوتهم وأوانيهم ، ويعدون معدات العيد ، فينحرون الخراف أو الدجاج أو البط ، ويهيئون أنواع الأطعمة والأشربة الأخرى ، إذ يبدأ( التكريس ) مع غياب الشمس لذلك اليوم حيث يكون فجر اليوم التالي هو ( الأول من شباط ) وهو اليوم الأول من السنة الجديدة فيصومون عن اكل اللحوم والجوارح وتسمى مبطل ثقيل وقبله يومان وتسمى مبطل خفيف احتراما لهذه المناسبة ، وتكون مدة التكريس (36 ) ساعة ، وإن جميع الارواح النوراية ( الملائكة الصالحين ) الحارسين للبشر على الارض اينما كانوا يغادرون مواقعهم متخلين عن حراسة ( ارى تيبل ) ( الارض البالية ) الى عالم الانوار اللانهائي ، لتقديم فروض الشكر والطاعة لخالقهم ( مانا العظيم أو مانه ربا الكبير وهذه من الاسماء الحسني للرب عند المندائيين ، لأنه قد أتم خلق العالم السماوي في هذا اليوم بمشيئته ، فيبقى الصابئة المندائيون ينتظرون عودتهم الى عالم النور حيث يستغرق ذهابهم 12 ساعة للمعراج ، حيث يصلون الى غايتهم في فجر يوم رأس السنة الجديدة ومن ثم يمكثون ستاً وثلاثين ساعة ، ولذا فكل مندائي يعتكف في داره طيلة هذه الساعات ، إذ يجتمع من كان غائباً ، ليعم الفرح بين العائلة ، ومن المعروف ان نهاية الخلق استمرت ستة ايام ، وياتي عيد شوشيان ( اي عيد الستة ايام ) بعد عيد الكراص مباشرة في اليومين السادس والسابع من السنة الجديدة فيقوم المندائيون( بعمل طريانة ( لوح طيني ) او صينية نظيفة من ( سبعة اجزاء ) ومنها الفاكهة وخيرات كثيرة وماء تبركا وابتهاجاً بهذا العيد السعيد ، ويقوم رجال الدين بعمل اكاليل من شجرة الغرب المقدسة الدائمة الخضرة كي تعلق على الابواب البيوت لتجلب النور والبهجة والسعادة لاصحاب الدار وتطرد ارواح الشر ، ، وان تعليق الاكاليل على عتبات البيوت في عيد شيشلام هو نموذج ما موجود في الديانة الايزيدية في وقت الربيع ، وان الليلة التي تفصل بين اليوم السادس والسابع تسمى ( ليلة القدر ) والتي تفتح فيها ابواب عوالم النور ، فيها للسمع والطلب من قبل عباده الصالحين ( عباد الرحمن ) ، وهو نفس التقليد موجود في الديانة الفرعونية المصرية القديمة ، وليلة القدر الاسلامية .
لذا فان عيد دهفا ربا اي عيد نوروز ربا اي العيد الكبير ، وهو عيد السنة الجديدة وبداية السنة القادمة ، والتي تبدأ في اليوم الاول من الشهر الاول المندائي ( اول ستوا ) او ( قام دوله ) اي برج الدلو و شباط في فصل الشتاء ، ويعتبره المندائيون مناسبة سماوية لأنهم يحتفلون به في الفردوس أيضاً ، وفي يوم الكراص كل عائلة تصنع أوان من الفخار بعدد افراد العائلة ، ثم يقومون بملء هذه الاواني الفخارية بالفاكهة الطازجة والمجففة ، مثل التفاح والجوز والزبيب وخلافه ، وتحفظ في البيت لمدة ستتة ايام ثم تؤكل ، وكذلك هناك طريانة كبيرة يحفظ فيها الماء والتمر وانواع معينة من الفاكهة والخضر اعتقادا بحضور ارواح الموتى ، ويؤكل قسم منه لغرض النذور والباقي يرمى في مكان بعيد او في النهر .
ان الكراص فلسفة وحكمة تكمن في تمضية يوم ونصف اليوم في البيت كونه يثير اكثر من تساؤل ، لماذا ؟ هل هو التزام ديني فقط ام غير ذلك ، ان التعاليم المندائية اجمالا تدعوا الى الالتزام بالهداية والتسامح والمحبة والتعاون والعاطفة والتمسك بالقيم والصفات الحميدة وعدم مخادعة النفس ، وعدم الهرولة وراء المصالح الانية الزائلة ، ان تجمع العائلة الواحدة في هذا اليوم المبارك يزيدها محبة على محبة وتكاتف وتعاون والتي تفتقد في حاضرنا اليوم ، بتفقد الاخرين والسؤال عن احوالهم وهو اهم شيء فيه المقاصد ، والتواصل الاجتماعي والترافق والتكافل والعطاء ، ، الفرد المندائي ان لا يفكر في نفسه ، بل في ربه وخالقه ويميز ويحكم في الامور السيئة والجيدة عندها يمكن ان يتغير حقا ، في تلك الساعات الطاهرة يطلب المغفرة والرحمة والفضيلة له ولعائلته ولمتوفيه وهدايته الى طريق الحق والصواب ، وان يكون راضيا عن الاعمال الحسنة التي أداها طوال السنة الماضية وسيكون مشتاقاً أكثر للاستمرار في طريق السعادة والخير ، فان الهدف الاسمى هو محاسبة النفس ماذا قدمت خلال السنة الماضية وماذا عليها ان تُقدم خلال السنة الجديدة هذه هي فلسفة الكراص والعيد الكبير .
قالوا في الكراص :
في كثير من الكتب المتداولة التي تتحدث عن المندائية وعن المناسبات الدينية وخصوصا الكراص ، الذي يتضمن مفاهيم فلسفية واخلاقية عميقة يتناولونه بشكل عادي خالٍ من كل نقد بناء وكدراسة توضيحية في سبيل المقارنة الهادفة ، نقرأ ما يلي : في الكراص تكون فيه الارواح النورانية ( الملكي ) التي تحمي الارض الفانية ، والمياه الجارية غائبة حيث تعرج الى عالم النور ( الما دنهورا ) للتسبيح والسجود للحي الازلي ، لان الكرصة بداية التكوين الاول للخلق الذي استمر 6 أيام لذا فأن المياه الجارية والارض وحسب المعتقد المندائي تكون عرضه لاي قوى شريرة والتي تقهر عادة بواسطة الحماية الروحية ، وفي نهاراليوم الثاني من السنة الجديدة حيث يبتهج الصابئة بعودة النور الى الارض ورجوع الحماية الروحية .
واليوم الاول من السنة المندائية الجديدة هو بداية عيد الكبير او ( دهفه ربه او دهوا ربا ) الذي يعتبر السنة المندائية الجديدة ، ويحتفل به في بداية شهر قام دوله ، الشهر الاول من السنة المندائية، وكذلك يطلقون الاسم الفارسي او الكردي نوروز ربه على هذا العيد ، 36 ساعة قبل اليوم الثاني من قام دوله أي الليلة قبل السنة الجديدة واليوم الاول من السنة الجديدة ، يسمى كلشي وزهلي اي ( الكنس والتنظيف ) ، خلال هذه الفترة لا احد يخرج خارج المنزل ولا تقام فيها اي طقوس دينية ؟ ، ان الطقوس الدينية تقام للحي قدمايي وليس للملائكة او للمخلوقات النورانية كما هو السائد عندنا .خوفا من الهة الظلام الخمسة ( شدوم وهاخ وزوجة ماخ وكاف وزوجة كافان وزارتاي - زارتاني وكرون - جبل اللحم ) ، كما هو وارد في الميثولوجيا المندائية . ويبدأ الكراص عند مغيب الشمس ليوم كنشي وزهلي ولمدة 36 ساعة أي ليلتين ويوم والطعام الكافيين حيث لا يجوز استخدام الماء الجاري اثناء التكريص أي خلال 36 ساعة كما ورد في النص ( كل من يحلل الماء الجاري خلال 36 ساعة سوف يلعن بلعنة ( شيشلام ربه ) ( الف وترسر شياله ) والتكريص بحد ذاته يعتبر حدث عظيم يمثل بداية تكوين العالم المادي بأمر الخالق العظيم وفيه تصعد المخلوقات النورانية ( الناطري ) والمكلفين بحراستنا الى المي دنهورا ( عالم الانوار ) حيث رب الاكوان ليمجدوا ويسبحوا للخالق العظيم شاكرين خالقهم على تلبية دعائهم بتكوين هذا الكون المادي حيث تستمر رحلتهم 36 ساعة لذا تصبح الارض وعالمنا المادي خلال هذه الساعات تحت سيطرة الارواح الشريرة ( شفياهي ) التي يقابلها ( الجن ) عند اخواننا المسلمين ، لذلك وجب على كل فرد مندائي التسلح بالصلوات والادعية وحفظ النفس الى اقصى حدٍ ممكن وفي هذه الايام لا يسمح بدخول الدار من قبل أي شخص خلال فترة التكريص وعدم لمس الحيوانات والنباتات وعند وفاة شخص في ليلة ويوم الكراص يدفن بعد انتهاء الكرصة .
وهناك اعتقاد اورده الاستاذ الراحل غضبان رومي عكلة الناشي في كتابه ( الصابئة ) يقول فيه : ان ايام هذا العيد ويقصد العيد الكبير ( دهفه ربا ) ترمز الى محنة او كارثة اصابت الصابئة فلبدوا او ( كرصوا ) في دورهم خوفا على حياتهم من البطش والقتل وهذا ليس بغريب على المندائيين خلال تاريخهم الطويل والمليء بالمعاناة والترحال ، وهذا استنتاج لا اكثر لما مروا به المندائيون من محن وازمات خلال تاريخ وجدودهم .
كراص سعيد وعيد مبارك وسنة مندائية جديدة وكل عام وانتم ومن تحبون بخير وسلام .

المصادر :
الكتاب المقدس - الكنزا ربا - الكتاب الثامن
الشيخ ستار جبار حلو / التربية الدينية المندائية
نذير العظمة / قراءة ثانية للتراث.
الليدي دراور / الصابئة المندائيون / الكتاب الاول
عبد الفتاح الزهيري / الموجز في تاريخ الصابئة المندائيين
صباح نجرس شاكر / مفاهيم وتعاليم مندائية.
نيقولا سيوفي / الصابئة / عقائدهم وتقاليدهم .
س.كندوز / ترجمة / الدكتورسعدي السعدي / معرفة الحياة
محمد الجزائري / المندائيون الصابئة .
أحمد غسان سبانو / هرمس الحكيم / بين الألوهية والنبوة .
لويس مينار / هِرمِس مثلث العظمة/ او النّبي ادرِيس .
عبّود قره / عالم التنجيم / أسراره وأوهامه .
سليم برنجي / الصابئة المندائيون / دراسة في تاريخ ومعتقدات القوم المنسيين .
غصبان رومي عكله الناشي / الصابئة / بحث اجتماعي ديني عن الصابئة .
عبد الرزاق الحسني / الصابئون في حاضرهم وماضيهم / ط7
ناجية غافل المراني / مفاهيم صابئة مندائية / تاريخ ، دين ، لغة .
عبد الحميد افندي بن بكر افندي عبادة / مندائي او الصائبة الاقدمون .
محمد عمر حمادة / تاريخ الصابئة المندائيين .
الترميذا ماجد عبد الله / الكرصة ومغزاها / افاق مندائية /25
مجيد جابك / معنى الكرصة لغويا / افاق مندائية / 26
آيار ناصر شنان / حياة الأنبياء المندائيين .

الدخول للتعليق