• Default
  • Title
  • Date
الأحد, 14 تموز/يوليو 2019

مفهوم الكراص المندائي

  اعداد : عزيز عربي ساجت
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

لقد تطورت قصص الإسراء والمعراج عبر الأجيال ، ونمت نمواً واسعاً ، وتدرجت حسب السُلم التاريخي لها ، متكاملة في المعنى والإطار، وتحولت بمرور الوقت الى رؤيا رمزية لدلالات فلسفية وسياسية ودينية وحضارية ، واتخذت من طابعها الثقافي في التأثير والتأثر في المجتمعات على مر القرون والعصور كما هي في الحكاية والاسطورة ، وقد ساعدت نزعة الهضم والإستيعاب التي رافقت نزعة الكتابة والتأليف في وضعها بصيغ جديدة ومن مصادرها المختلفة ، هذه الأنواع كلها ينتظمها مفهوم التعدد للاثر الأدبي الواحد او القصة الواحدة .

ان تعدد الروايات لا ينفي وحدة النموذج واصالته في المعايير الإبداعية للخلق الأدبي ، كما انه لا ينفي التفرد والتميز لكل صورة او رواية لجانب من جوانبها ، والتي دخلت اليها عن طريق التصوف والفلكلور الشعبي ، كما دخلت عن طريق التراث الديني الحي الذي تناقلته الأجيال كابراً عن كابر .
لذا فصور وقصص الإسراء والمعراج إنما تستمد عناصرها من الأحاديث والمعتقدات الشعبية والدينية المتوارثة وعن الملائكة والمخلوقات النورانية وصور الفردوس والجحيم ومحطاتها المتعددة ، كما في وصف العرش والملائكة الصالحين من الأرواح الخيرة ، والشيطان واتباعه من الأرواح الشريرة ، والنابعة عن الخيال الشعبي والتي ترجع بالأساس الى أصول سامية قديمة قبل ان تنهل منها المعتقدات اللاحقة .
ومؤثراتها لم تقتصرعلى الآداب بل تعدت ذلك إلى أشكال التعبير الفني الراقي كالخط والرسم والإيقونات والمنمنمات الطقسية الأخرى ، التي لها بنيتها المعمارية والرمزية ودلالاتها الروحية ومصاحباتها الفكرية والحضارية ، وعلى أهمية هذا الأثر لا من الناحية الدينية والروحية فحسب ، بل من الناحية الجمالية والفنية أيضاً .
الإسراء والمعراج من حيث الأسلوب يمتاز بالخصائص التالية : الرمز ، التصوير الفني ، البناء المعماري . فالصوفيون يميلون الى الرمز ، اما الفولكلوريون فالميل الى الوصف والتصوير والمنحوتات ، اما البناء القصصي يختلف من حيث الخطط العامة إلا ان معماريتها تمتاز بخواص أدب الرحلات والأمثلة كثيرة على هذا المنوال .
التراث الديني المندائي تحدث بإسهاب عن هبوط وصعود الملاك الصالح هيبل زيوا الى العالم السفلي ( الما ريشايا زوطا ) لكبح جماح عوالم الشر والظلام ، والعودة من جديد الى العالم العلوي ( الما ريشايا ربا ) ، والذي يصادف فيه مناسبة دينية مقدسة لدى المندائيين ، يوم (1) آيار مندائي والذي استغرقت رحلة الملاك الصالح (18) يوماً في حسابات العالم المادي والتي تم تقييدها بالرمز ( السكن دولة ) بعد جلبه جميع اسرار عالم الظلام في يوم (18) آيار اي يوم عيد الصغير المندائي .
ونلاحظ في عروج الأنبياء شيتل بن آدم وسام بن نوح ( شوم بر نو ) ويحيى بن زكريا ( يهيا يهانا ) االرسول إلى عالم النور بأمر من هيي قدمايي كما جاء في الكتاب المقدس ( الكنزا ربا ) ، وعروج عيسى المسيح الى السماء بعد اليوم الثالث من صلبه ، واختفاء موسى النبي في جبل نبو الذي في ارض موآب وبأمر الرب يهوه ، كل هذه قرائن لا تقبل التأويل عن احداث بشكلها وفق صورها الرمزية المنقولة عن التراث الديني ، تعطي طابع الخيال المُبهر والإبداع الفني بالوانه ورموزه وصوره المعبرة .
ان وصف الملائكة في الموروث الديني المندائي ، ووجوهها المتعددة او ملائكة العناصر التي تعكس التعدد في الوحدة من اكثر الإبداع والتركيب التصوري المُبهر لحالة الإسراء والمعراج في الصعود والنزول الى خالق الكون عبر الأثير السماوي الساكن في الشمال " اباثر " او " أواثر "، وما تمتاز به الملائكة من سهولة الحركة في تنقلها من خلال الفُلك والسفن الناقلة ، بأمر صاحب العرش والعظمة حسب هذا المفهوم .
تتجلى قصص الإسراء والمعراج باعتبارها وثائق فكرية تصورية فيما وراء الطبيعة ، تزودنا بأنماط من وجهات نظر مختلفة عن هذا اللغز الذي حيّر البشر ، عن صلة الإنسان بالخالق ، وصلة الإنسان بالكون ، وصلة الله بالإنسان ، والإنسان بأخيه الإنسان منذ أمد السنون والدهور. وتلقي أضواء كاشفة على المعتقدات والأنظمة الروحية والإجتماعية وخاصة في التصوف الديني المعروف عنه اليوم .
هناك مؤشرات وردت في كتبنا الدينية المقدسة عن مكونات عالم الظلام التي هُزمت من قبل الملاك الصالح هيبل زيوا اثناء رحلته الأخيرة لعوالم الظلام المتعددة : (عالم الروهة - أور وايواث - زرتاي وزنتاي - هاغ وماغ - كاف وكافان - انانات وقن ، وكرون جبل اللحم الهائل )، من اجل تهيئة الأرض ومن اجل آدم وتكوين النسل البشري وعملية الخلق الأولى على هذه الأرض . وان جميع هذه العوالم تمر بها النفس اثناء إنفصالها عن جسد الإنسان وعروجها وصولاً الى العالم المثالي "مشوني كشطا " اي أرض العهد .
وقد خُتم الشر بمكنونات عالم الظلام ، برمز السكندولة وعناصرها الأساسية للتكوين : الحية ترمز الى النار وتمثل فصل الشتاء وهي تقابل الدم في الجسد البشري ، والاسد يرمز الى التراب ويمثل فصل الربيع وهو مقابل اللحم في الجسد البشري ، والعقرب يرمز الى الماء ويمثل فصل الصيف وهو مقابل العظام في الجسد البشري ، أما الزنبور يرمز الى الهواء أو الريح ويمثل فصل الخريف وهو مقابل الأعصاب في الجسد البشري ، حسب ما ورد في الميثولوجيا المندائية .
نرى ان عروج وخلود النفس ( نيشماثا ) المندائية ، تمر بمراحل المطراثي اي المطهرات ، لذا يعتبرها المندائيون سجينة الجسم - بغرا في عالم الظلام ( المي ادهشوخا ) وفي يوم ما تتخلص من هذا السجن عائدة الى عالم النور ( المي ادنهورا ) ، اي بعد انتقالها من العالم المادي الى العالم الروحي تاركة الجسد الفاني ، بعد ان تحاسب على ما قامت به من اعمال في الدنيا من قبل ( الملاك الصالح أواثر مُزنيا ) في ديوان أبآثر ( الميزان ) ، و يقابلها عند اخواننا المسلمين ( منكر ونكير ) وفق موازين توزن به هذه الأعمال ان كانت كل اعمالها صالحة نقية تذهب الى عالم النور ، وان كانت اعمالها سيئة تُعاقب بعقاب تتفاوت درجات تعذيبية حسب نوع السيئة التي اقترفتها النفس فتلتحق بالعالم الأعلى بعد انعتاقها وتلتقي ب( دموثة ) اي بالشبيه هناك في عوالم النور، وقد جاء في النصوص المندائية على لسان المحتضر : " أذهب الى شبيهي وشبيهي يأتي إلي ويحتضنني ، كما لو أنني خارج من السجن " ، لذا تقام لها وجبات طقسية ( ساموراي ) من قِبل رجال الدين ، لإعتقاد المندائيين بخلودها وعروجها مرة اخرى .
ولأن الديانة المندائية تؤمن بالعوالم الكونية السبعة وبخلود النفس ( نيشماثا ) وعروجها الى خالقها الأول . ويلاحظ هناك اوجه موازنة متعددة بين الأفكار والشعائر الساميّة والزرادشتية والمثرية والتي ترتبط فيها الشمس واشخاصها وابطالها ورموزها بمبدأ الحياة الالهية الأبدية ، وهذا الاعتقاد موجود أيضا في الديانة الإسلامية يوم الحساب اي ( الثواب والعقاب ) كما ورد في (القرآن ) وفي سورة الفجر " يا ايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " .
والاعتقاد السائد بان المندائيون يعطون اهتمام كبير للبروج ولهم في هذا كتب ودواوين منها كتاب البروج - أسفر ملواشة ، وهو مخطوط لاغراض التنجيم والفلك ، يستخرج منه الاسم الديني لكل فرد مندائي ، ويستعينون به الشيوخ لمعرفة الحوادث الزمنية ولمعرفة البرج الذي ولد فيه الشخص المندائي فيستنبط منه الطالع ، والأحداث المهمة في بداية كل سنة مندائية جديدة ، كما في ديوان ترسرالف شيالة ( 1012) سؤال .
وتعليل ذلك لأن المندائية ديانة معرفية ، ولها ارتباط روحي كبير بالملائكة والاثريين والإعتقاد السائد حسب ما جاء بكتبها المقدسة وبتعاليم انبيائها ان الملائكة تسكن في ابراج النجوم والكواكب ولها تاثير مباشرعلى حياة الإنسان والطبيعة والكون .
لهذا عرفَ المندائيين الكراص من خلال هذا الإرتباط الروحي ، وقد برز في هذا المنحى من الصابئة ثابت بن قرة العالِم العظيم في الهندسة والفلك والفيلسوف والمترجم ، وثابت بن سنان الطبيب والعالِم بالظاهر الجوية ، كذلك البتاني عالم الفلك ، وأبي الخطاب الصابي ، وابن وحشية صاحب كتاب الفلاحة النبطية ، اضافة الى العلماء المندائيين في هذا العصر ، عالِم الفيزياء الدكتور الراحل عبد الجبار عبد الله ، والعالِم الفلكي الدكتورعبد العظيم السبتي .
اما التقويم الذي تبدأ به السنة المندائية هو الشهرالاول- أول ستوا اي ( قام دوله - برج الدلو )- شباط الميلادي وتحتوي على 365 يوما فقط ، وليس فيها سنة كبيسة ، وهي تقسم الى 12 شهرا ، كل شهر ثلاثون يوماً ، وتعتبر خمسة ايام الزائدة شهرا منفرداً عيد الخليقة ( البنجة ) ، اما بدأ التقويم فهو حسب التدرج التأريخي للأنبياء المندائيين فيقسم الى ثلاثة :
الأول : بدأ الخليقة وهبوط آدم ، وهو اول تاريخ يضبط به السنون ، الثاني : عام طوفان نوح ، وهو الأمد الثاني لتحديد السنين ، الثالث : ولادة يحيى - يهيا يهانا ، ويختلف عن التقويم الميلادي بستة اشهر، ويتخذ منه المندائيون تاريخاً لامورهم الدينية وشؤونهم الشخصية .
أما الكراص في كتب اللغة : كلمة مأخوذه من كلمة كرز بمعنى دخل واستخفى في غار ونحوه ، ويقال كرز في المكان اختبأ فيه ، هذا ما جاء في كتاب المعجم الوسيط ، وهذه المعاني الواردة كلها قريبة من معنى الكرصة او الكراص حين يلزم الصابئة المندائيون بيوتهم مدة ست وثلاثين ساعة تبدأ من غروب شمس نهاية السنة المندائية ( كنشي وزهلي ) حتى شروق اليوم الثاني من السنة المندائية الجديدة . وقد حدث إبدال (الزاي ) صادا لتقاربهما في الصوت وهذا شائع في لهجات العرب ، وشاع استعمالها بيننا واخذت مدلولا ًخاصا لدى الصابئة المندائيين.
ومفهوم الكراص كما جاء في ديوان " الف وترسر شياله" : يعتبر التكريص بحد ذاته حدث عظيم يمثل بداية تكوين العالم بأمر الخالق العظيم وفيه تصعد المخلوقات النورانية ( الناطري ) والمكلفين بحراستنا إلى المي دنهورا (عالم الانوار) حيث رب الأكوان ليمجدوا ويسبحوا للخالق العظيم شاكرين خالقهم على تلبية دعائهم بتكوين هذا الكون المادي حيث تستمر رحلتهم 36 ساعة وبعد عودتهم ليصبح اول يوم من السنة المندائية الجديدة ، وبداية العيد الكبير .
ومسألة الكراص رغم كونها ظاهرة تراثية فلكلورية متوارثة ، كالمتعارف عليها عند بقية الأقوام والشعوب الأخرى ، لكن في جوهرها مضامين فلسفية وفكرية ودينية تتجلى في اسمى صورها لما تتمتع به من معاني كبيرة عن الحياة وعن الخالق وملائكته الاثريين ، وعن الصراع الأبدي القائم بين قوى الخير والشر ، بين النور والظلام على مر العصور والدهور ، والهدف الأسمى هو الحفاظ على كيان الإنسان وديمومته في تعمر الأرض ونقاءها ، وتعطينا دروسا ذات قيّمة عن معنى المحبة والتكاتف والتعاون بيننا ونبذ الخلافات وجمع العوائل المتباعدة بسبب الظرف في يوم مقدس مثل يوم الكراص المندائي.

 

الدخول للتعليق