• Default
  • Title
  • Date
الأحد, 09 آذار/مارس 2014

أبو إسحاق الصابي والشريف الرضي علاقة إنسانيّة وأدبيّة رائعة

  صلاح جبار عوفي
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

تقديم :
قبل أكثر من ألف ومئة وخمسين عام ، غادرت أسرتان صابئيتان موطنهما ( حرّان ) وحلّتا في بغداد. وقد إشتهرتا بما أنجبتا من الأبناء ، ممن برعوا بالطب والفلك والتأريخ والأدب والعلوم الأخرى .
والعائلة الأولى ، هي ( أسرة ثابت بن قرّة ) ، الطبيب الذي تُوفى ببغداد عام 288 هـ الموافق 901 م .. والثانية ( أسرة إبراهيم بن زهرون ) ، الطبيب الذي توفى ببغداد أيضاً في 309 هـ الموافق 921 م
ولمّا كانت الأسرتان تجمعهما عقيدة واحدة وأصل واحد ، فقد تمَّت بينهما مصاهراتٍ ولأجيالٍ متعاقبة ، وتكونت من فروعهم شجرة عُرفت بـ ( آل الصابي ) ، التي أصبح لها موقع مرموق في الدولة العباسية . ويحدثنا إبن القفطي : ( أنَّ ثابت بن قرّة الصابئي الحراني، هو الذي أدخل رئاسة الصابئة إلى أرض العراق ، فثبتت أحوالهم وعلت مراتبهم وبرعوا في مختلف الآداب والعلوم ... )
وفي مقالنا هذا ، سنتناول جانباً من حياة واحدٍ من أعلام ( آل الصابي ) .. وهذا الرجل هو : ( إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون بن حيّون الصابي ) والملقب بــ ( أبو إسحاق الصابي ) . وُلد أبو إسحاق ، ببغداد في 313 هـ الموافق 925 م ، وتوفى فيها عام 384 هـ الموافق 994 م .. كان أبوه وجدّهُ من أشهر أطباء زمانهم .. وقد نُكب بوفاة ولدَيه ( سنان وصاعد ) ، ولم يتبقَ له غير ولده ( المُحسن ) ، فكان كأبيه ، أديباً وشاعراً .. وقد تولى ديوان الرسائل في الدولة العباسية سنة 349 هـ ، وهو في سن السادسة والثلاثين ، بعد أن تخطى جميع كتّاب الحضرة ، وتفوق عليهم .. وقد شمل نشاطه ، في التأليف ، ميادين متعددة في المعرفة ، فمنها ما وصل إلينا كرسائله المعروفة ، ومراسلاته مع الشريف الرضي ، وكتاب التاجي في أخبار بني بويه ، ورسالته إلى أبي سهل الكوهي .. إضافة إلى عدد من الكتب والرسائل والمصنفات التي فُقدت ، ويبدو أنها كثيرة ،وتشمل نواحي مختلفة من المعرفة .
أما في العلوم ، فكان لإبي إسحاق، باعٌ طويل في علم الفلك ، حتى أنه حضَّر مرصدين فلكيين مهمين في بغداد في أواخر عمره ، وقد صنع بعض الادوات الخاصة بهذا العلم كالاسطرلاب والزيج ، وله يد طولى في علوم الرياضيات والفلسفة والتأريخ والطب والزراعة ، كما أشار إلى ذلك إبنُ النديم والتوحيدي وإبنُ العبري .
علاقته مع نقيب الطالبيين الشريف الرضي :
كان أبو إسحاق ، بحكم منصبه في الدولة كــ ( رئيس لديوان الرسائل ) ، وبحكم ثقافته الأدبية الراقية ، على صلاتٍ وديّةٍ مع عدد من الشخصيات الأدبية المعروفة التي عاصرها. وكان مما ساعد على نمو هذه الصلات ودوامها ، عذوبة نفسه ودماثة خلقه ، هذه الصلات التي إمتد تأثيرُها إلى ما بعد وفاته ، كعلاقته بالشريف الرضي والصاحب بن عبّــاد وغيرهما.
وتعد علاقته بالشريف الرضي وصداقته له قمة تلك العلاقات ؛ لما إتسمت به من طابعِ الإخلاص والود ، ولما خلَّفته من الثمار الأدبيّـة الرائعة ، فكانت بحق ، علاقة إنسانية وأدبية رائعة .
أسباب العلاقة :
لا بدَّ من أسبابٍ وراء متانة هذه العلاقة ، جعلتها ترتقي إلى هذا المستوى ، وأهمهـــا : أنَّ أبا إسحاق ، كان على علاقة وثيقة بوالد الشريف الرضي .. فلما نشأ الشريف وأدرك الامور ، أحسَّ بحب ومودّة تجاه الرجل الذي رعى مصالح أبيه بحماسة وإخلاص .. وثانياً ، جمعت بين الرجلين كراهية شديدة لعضد الدولة البُويهي ، الذي إعتقلَ والد الشريف الرضي ، مما ترك أثراً سيئاً في نفس الشريف وهو لم يبلغ العاشرة من عمره .. أمّا الروحُ الأدبيّة المشتركة ، فكانت من بين أهم الاسباب التي جمعت بينهما ، فقد نظر الشريف الرضي منذ صباه بعين الاعجاب والتقدير إلى أدب الصابيء في شعره ونثره .. ومن جانبه فقد أُعجب أبو إسحاق بتلك الشهرة التي لدى الشريف .
وعن مكانة تلك العلاقة ، قال الشريف الرضي :
لقد تمـــازج قلبانـــا كأنهمــــا تراضعا بدم الأحشاء لا اللبــــــنِ
أنت الكَرى مؤنساً طرفي وبعضُهم مثل القذى مانعاً عيني من الوسنِ
كما تبيَّن الصابي ، بدقيق ملاحظته ، من طموح شديد لدى الشريف في أن يتبوأ أعلى مراكز في الدولة ، وهي الخلافة ، فأخذ يُحفزه على أن يتبوأ ذلك المكان .. وقد أرسل له ، مرَّة ، أبياتاً تتضمن هذا المعنى ، قال فيها :
أبا حسنٍ لي في الرجالِ فراسة تعودتُ منها أن تقول فتصدقا
وقد خبَّرتني عنك أنكَ ماجـــــدٌ سترقى من العليا أبعد مرتقى
طبيعة العلاقة :
رُبَّ سائل يسأل ، كيف أمكن لصداقة قوية متينة ، أن تقوم بين رجُلين تفصل بينهما الظروف بأكثر من حائل وعائق ..
فكان أول تلك العوائق ، فارقْ السن بينهما .. فالصابي قد تخطّى الستين بثلاث سنوات ، في الوقت الذي دلف الشريف إلى السابعة عشر من عمره .. ومع هذا الفارق ، فإنَّ الصابي رأى في الشريف ، رجلاً إكتملت فيه جميعُ خصائص الرجولة ، إذ تاقت نفسُه إلى منصب الخلافة منذ صباه ، كما كتب شعرا جيداً وهو لم يتخطَ العاشرة من عمره ، ومنهُ قصيدة مطلعها :
المجد يعلم أنَّ المجدَ من أدبي ولو تماديت في غيِّ وفي لعبِ
وحين أحسَّ الشريف ، بما يعتملُ في قلب صاحبه وصفيِّه ( الصابي ) ، فوجدناه يقول له ما يطمئنه بصادق إخلاصه وعميق شعوره :
ولو أنَّ لي يوماً على الدهر إمرةً وكان لي العدوى على الحدَثـــانِ
خلعتُ على عطفيك بُرد شبيبتــي جَواداً بعمري وإقتبال زمانــــي
وحمَّلتُ ثقل الشيب عنك مفارقي وإن فلّ من غربي وغضّ عناني
أما العائق الثاني ، فهو الفارق الاجتماعي والطبقي بين كلا الرجلين ، فالشريف ، ينتمي إلى أعرق البيوتات العلوية آنذاك ، إضافة إلى كونه نقيبـاً للطالبيين في الدولة العباسية .. بينما أبو إسحاق الصابيء ، كان رجلاً صابئياً ، لا تربطه بهذه البيوتات غير إيمانه الصادق بالله ، إضافة إلى صلاته الأدبية والإنسانية ودماثة خُلقه . وكان لأصالة عرق الشريف وإنسانيته وروحه الأدبية العالية ، أثراً كبيراً في أن لا يُصبحَ هذا الفارق عائقاً بوجه تلك العلاقة الرائعة ، وقد أفصح الشريف عن ذلك ، بإحدى قصائده ، ومنها البيت التالي :
إلا تكن من أُسرتي وعشائري فلأنتَ أعلقهم يداً بودادي
وفي العلاقة هذه ، شيء لآخر ، تناوله شعرهما ، وهو بُعدُ داريهما في بغداد ، فالشريف يسكنُ الكرخ ، والصابي يسكنُ الرصافة ، والمسافة وإن كانت لا تتعدى بضعة أميال ، إلا إنها كانت تحتاجُ مجهوداً كبيرا ً لقطعها .. وقد صرَّح كلاهما بذلك في قصائدهما ..
فقال ابو إسحاق :
فإن تنأَ عنك الدارُ فالذكر ما نأى وإن بان منّي الشخص فالشوق لم يَبِنْ
وفي جوابِ الشريف على تلك القصيدة :
أشتاقكم فدواعي الشوقِ تُنهضني إليكمُ وعوادي الدهر تُقعدنــــــــي
وأعرضُ الودَّ أحياناً فيؤنسنــــي وأذكرُ البُعدَ أطواراً فيوحشنــــــي
هذا ودجلــة ما بينــي وبينكــــــم وجانب العبرِ غيرُ الجانب الخشنِ
النتاج الأدبي :
وفيما يخص النتاج الأدبي ، الذي خلفته هذه العلاقة ، فقد جُمع كلُه في كتاب أُطلق عليه ( رسائل الصابي والشريف الرضي ) .. والرسائل هذه قطع من الأدب الراقي المشحون بالعواطف الانسانية الرائعة ، بلغ بهما الصابيء والشريف ، القمَّة في شعرهما ونثرهما .
في باب النثر بينهما :
وفي رسالةٍ ، كتبها الشريف إلى أبي إسحاق ، يُعزّيه بوفاة ولده ( سنان ) .. قال فيها :
(( ... لويت عناني ، في عشيّةِ أمسنا ، عن حضرة سيدي الشيخ ، أطال الله بقاءه وأدام عزّه وتأييده وسعادته وسلامته ونعمته ، وأنا المساهم له في تحمِّل النازلة ، والأخذ معه بأوفر الأقسام من النائبة ...... )) .
وقد أجابه ابو إسحاق الصابي برسالة ، كشف فيها عن طول باعه في هذا الميدان ، فقال :
(( ... وصلت الرقعة ، أطال الله بقاء سيدي الشريف الجليل ، وأدام عزَّه وتأييده ، ونعمته وكفايته ، وحراسته ووقايته ، بالتفضل الذي زادَ وأوفى ، والقول الذي نفع وشفى ، والتعزية التي غمرني إحسانها ، وبهرني إستحسانها ، فصادفت منّي قلباً عليلا ، وخاطراً كليلا ، ونفساً قد أثخنتها الرزية وولتها المصيبة ، وأحالتها المحنة عما كانت عليه من جلدٍ وقوةٍ وتماسك ومعرفةٍ .....) .
أما في باب الشعر :
فقصائد الشريف ، في رثاء خليله وصفيِّه أبي إسحاق ، فهنَ ثلاث :
الأولى ( الدالية ) المعروفة ، ومنها الأبيات المتفرقة التالية :
أعلمتَ من حملــوا على الأعــــواد؟ أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟
جبلٌ هوى لو خرَّ في البحر اغتدى من وقعــــهِ متتابــع الأزبــــاد
ما كنتُ أعلم قبل حطَّكَ في الثـرى أنَّ الثرى يعلــو على الأطـواد
ما مطعم الدنيــــا بحلــــو بعــــــده أبـــداً وما مــــاء الحياة يبـادي
فقد كنت أهوى أن أُشاطرك الردى لكن أراد الله غير مُـــــرادي
ثكلتــــك أرض لم تلـــد لك ثانيــــاً أني ومثلك مُعوزُ الميــــــلاد
لك في الحشــــا قبـــرٌ وإن لم تأوه ومن الدموع روائحٌ وغوادي
والثانية ( اليائية ) ، ويبدو قالها الشريف ، بعد مدة من وفاة صاحبه ، وقد مرَّ بقبره :
أيعلــــمُ قبــــرٌ بالجنينةِ أنـنــا أقمنا به ننعى النَـدى والمعاليــــــا
نزلنا إليهِ عن ظهور جيادنا نكفكفُ بالأيدي الدموع الجواريا
أما ( القافيَّة ) ، فقد إرتجلها الشريف ، عندما مرَّ بقبر صاحبه ، سنة 393 هـ ، الموافق 1003 م أي بعد تسعِ سنوات من وفاة صديقه ، فقال :
لولا يذمُّ الركبُ عندكَ موقفي حيَّيتُ قبركَ يا أبا إسحاقِ
كيف إشتياقُكَ مُذ نأيت إلى أخٍ قلق الضمير إليكَ بالأشواقِ
أما قصائد أبي إسحاق ، في صاحبه الشريف الرضي :
فمنها ( النونيّة ) ، التي أرسلها للشريف ، يشكو فيها كبر سنِّهِ وعجزه عن الحركة ، ويصف له المحفَّة التي يُحمَلُ عليها ، وقد كتبها أبو إسحق قبل أن يتوفى بأشهر قليلة :
إذا ما تعدَّت بي وسارت محفَّـــة لها أرجل يسعى بها رَجُلانِ
وما كنتُ من فرسانـِـها غير أنها وفت لي لما خانت القدمـــانِ
فقد حمِلتْ مني أبنَ سبعين سالكاً سبيلاً عليها يسلكُ الثقـــــلانِ
وللصابي ، أُخرى لا تقلُّ متانةً وعذوبة وصدق عاطفة ، وهي آخر شعره في الشريف ، كتبها له قبيل وفاته ــ أي وفاة الصابيء ــ بإثني عشر يوماً ، ومطلعها
أبا كلِّ شيءٍ قيل في وصفهِ حسنْ كذلك ينحو مَن كنّاك أبا الحسنْ

وفي قصيدة ، وضع فيها أبو إسحاق ، قواعد وشروطاً للصداقة وحفظِّ سر الصديق ، وقد أرسلها ، لصديقه الشريف الرضي :
لسرِّ صديقي مكمنٌ في جوانحي تمنـــع أن يدنــــو إليــه المباحــثُ
تغلغل منّي حيث لا تستطيعــــهُ كؤوسِ الندامى والأنيسُ المُحادثُ
إذا الفحصُ آلى حالفاً أن ينالـــهُ تراجـــعَ عنهُ وهو خزيانُ حانــثُ



المصادر :
*** أبو إسحاق الصابي ، حياته وأدبه ــ مهدي صالح محمد البدري
*** غرر البلاغة لهلال بن المحسن الصابي ــ د . أسعد ذيبان
*** شرح شواهد التلخيص المسمى معاهد التنصيص ــ عبد الرحيم العباسي
*** مجلة آفاق مندائية / العدد 17 سنة 2001 : حيث نُشر الموضوع أعلاه

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014