لا شك أن أغلبنا يعرفون أن كلمة مندا تعني علم وعرف ومنها أشتقت باقي الأسماء وكما هو معروف أيضاً أن أبناء الطائفة المتدينين والناصورائيين توارثوا اللغة المندائية (لغة العلم) جيلاً بعد جيل وحفظوا لنا تراثنا وكتبنا الدينية.
تقول الباحثة الخالدة (ناجية المراني) في كتابها (مفاهيم صابئية مندائية)(ص104) ما يلي:
(ومن المعروف أيضاً أن جميع الباحثين يتفقون على أن الصابئية المندائية هي عقيدة معرفية،حيث أنها تعتمد العلم أو المعرفة العليا التي يتلقاها الإنسان من خالقه عن طريق الوحي أو الإلهام أو الكشف ودليلهم الأول هو كلمة مندا الآرامية المندائية وتناظرها كلمة غنوصية الإغريقية بمفهومها الديني الروحي إذ أنها تعني المعرفة أو العلم الرباني الذي يحرر نفس الإنسان أثناء حياته فتعرف النور الأعلى الذي منه إنبعثت وإليه تعود بعد فناء الجسد الأرضي. أما دليلهم الآخر فهو فكرة التمييز بين النفس السماوية والجسد الأرضي،بين الخير والشر وبين النور والظلام.)
ويقال بالمندائية تيرتا فراليا مندا أي ضميري استنار علما (نفس المصدر ص99) .
من الواضح ايضا ان نسمة الحياة السماوية المباركة تحل في جسد آدم الارضي وتحرره من مادية الجسد بواسطة المعرفة او العلم الرباني (مندا اد هيي) الذي ينور ضمير الإنسان ويتسع افقه ويهتدي الى سبيل الحق ويكون أهلا لما خصه الله من ذاته العلية (نفس المصدر ص 100)
من الواضح أن أبناء المندائية في حوض وادي الرافدين(العراق وإيران) حالهم حال باقي أبناء الوادي قد إنقطعوا عن منهل العلم والمعرفة وطلبهما لقرون طويلة وما إستطاعوا أن يحافظوا عليه هو التراث الديني والكتب والطقوس وهذا بحد ذاته أعجوبة إنما وفي مطلع القرن العشرين هبوا من السبات الطويل وإستيقظوا على صوت (مندا اد هيي) يناديهم إلى المعرفة الحقة وطوال أكثر من سبعين عاماً إنطلقوا إلى عالم المعرفة والدراسة والعلم والبحث العلمي وكان شيوخنا الأفاضل أول من شجّع على التحصيل العلمي والإرتقاء في سلم المعرفة وكان من المسلّم به أن العلم الرباني (مندا اد هيّي) الذي ينور ضمير الإنسان ويهديه ويكون أهلاً لما خصّه الله من ذاته العلية لا سبيل له إلا طريق التحصيل العلمي والبحث والتقصي وصولاً إلى التجلّي أي الكشف الإلهي (Revelation) الذي يقرّب المندائي من الخالق.
وحتى لا يفهمني الكثيرون خطأ أقول أن هذا الأمر شمل أبناء الملّة في كل المجالات فنقّاشهم فنّان وصائغهم بارع متميز وهنا أصبح التفرّد والإتقان والتفنن في كل المجالات طريق المندائيين نحو السمو والترقي وبهذا حققوا معرفيتهم الدينية بلا جدال.
وما أن أنتصف القرن العشرين وتجاوز ذلك بقليل حتى إحتلت المعرفة العلمية الدنيوية مكانها الطبيعي الذي تدعو له الديانة المندائية وكان الجيلان الأول والثاني أتقياء وأنقياء ومتنورين بحق بعلمهم ويؤمنون أن تعبدهم في محراب العلم والمعرفة هو الطريق السليم للإرتقاء ومعرفة الخالق الأزلي.
تعاونت عوامل قاهرة عديدة معروفة لأكثرنا خلال الخمسة وثلاثين عاماً المنصرمة على تغيير الصورة الناصعة (للمندائي المعرفي العالم المتميز) و رويداً رويداً بدأ يظهر للوجود خطان أحدهما في الجانب الديني والآخر في الجانب الدنيوي وقد إلتقى هذان الخطان في التقليل من شأن المندائي المعرفي العالم المتميز.
في الجانب الأول إنجرف التدين إلى علاقة من نوع جديد بين الخالق والإنسان وهذه العلاقة الجديدة لا تستند إلى المعرفية ولا تعتمد العلم أو المعرفة العليا التي يتلقاها الإنسان من خالقه عن طريق الوحي أو الإلهام أو الكشف الإلهي بل تعتمد على الجوانب الطقسية دون الروحية وتستند إلى فهم جامد للعقيدة المندائية.
في الجانب الثاني الأخطر برزت حالة المناداة بأن العلم والتحصيل العلمي والتفرّد والإتقان والتفنن لاتوصل المندائي للثروة والعيش الرغيد لذا جرى التسابق لسلوك أقصر الطرق وإنحدرنا إلى كون الغاية تبرر الواسطة.
إلتقى الجانبان في أسوء لحظة تاريخية حاسمة في حياة المندائية وهم يعبرون جسر الهجرة إلى العالم الجديد وتحالفا حلفَ الجهل والجمود المعرفي وكوّنا فهماً متخلفاً عنيداً زحف على الفكر المندائي المعرفي الغنوصي الجدلي السامي وتكالب عليه وأضعفه كثيراً وهذا الحلف يقف اليوم بالمرصاد لكل من يريد بعث الحياة في المعرفية المندائية من جديد.
لابد من الإعتراف وبواقعية مريرة أن سلسلة المعرفية المندائية الجديدة التي بدأت بأول معلم مندائي قبل حوالي القرن وإنتشرت وإنتعشت لأربعة أجيال وبنت هيكلاً متماسكاً قد أصابتها ضربات قوية عديدة وهذه الضربات داخلية وخارجية لكن أهم ضربة أصابتها كما أصابت المجتمع العراقي ككل هو توقف النمو الطبيعي المتراكم للمعرفية المندائية وإنتهاء قياداته التاريخية أما بالوفاة أو بالتخلي الإضطراري عن مراكزها وإخلاءها لكل من هب ودب من مدعي العلم والمعرفة والأنكى من ذلك أن هؤلاء يدعون أن ما يحملوه من أفكار وتطبيقات هو المعرفية المندائية؟!
هل أنا أحلم بالعودة إلى العلم أو المعرفة العليا التي يتلقاها الإنسان من خالقه عن طريق الوحي أو الإلهام أو التجلّي ؟
هل إنتهى جهد مائة عام من العمل المضني إلى أن نتشضى ونتبدد وننتشر ونذوب ؟
كم شاب أو شابة مندائية يريدون إرتقاء سلم التدين المندائي المعرفي بأن يحترفوا المعرفة العلمية كأطباء ومهندسين وصيادلة وعلماء وصاغة ماهرين وفنانين متميزين وأدباء مبدعين متفردين؟
كم شاب وشابة مندائية يريدون أن يحققوا مندائيتهم المعرفية بأن يتبعوا طريق عبد الجبار عبد الله وناجية غافل وزهرون ملا خضر وفرحان سيف والكوكبة المعروفة من فرسان المعرفة.
لا تدين مندائي إلا بالعلم والمعرفة العليا التي يتلقاها الإنسان من خالقه عن طريق الوحي أو الإلهام أو التجلّي أي الكشف الإلهي.
أنا مندائي إذن أنا عالِم
هذا هو طريق المندائية الحق فاتبعوه