لا أجيـد النقد الأدبي، ولكني، وبحق، قارئ يجيد التحليل من خلال تواضع ثقافة أدبية ما زال يدرس أبجدياتها
وإذا أخذنا الحديث عن الحكاية ... فهناك مقوماتها تسـتند إليها... وهنا سـآخذ جانباً واحداً فيها... ألا وهو البلاغة
فالحكاية عند مديح الصادق حبكة نسـيج مشـذب نهايته كما بدايته لتكون سـجادة واضحة الملامح والأبعاد، يفترشه
أبطال بنكهة الوطن أسماؤهم، وتجمعهم بيئة غالبا ما تكون... معاناة، وإذا كان بعدا النســيج هما الزمان (من حياتنا) والمكان (العراق ـ في معظمه)، فبالتأكيد ســـتكون البلاغة بعـدا ثالثا أراه جليا، وبه تكتمل أركان القصة القصيرة
أما النقش ـ أقصد الحشــو - فهو لم يكتب، بل يصاغ بأنامل تعرف كيف تختار المفردات فتجسـم المحتوى ليكون مضموناً واضحاً (فكرة)، وجبة شـهيه حتى لمن هو بعيد عن الأدب
أمّا الديكور فهو عبارة عن ارتباط الحكاية لدى مديح الصادق بالواقع الصرف... بدون رتوش... وأحياناً نحت الخيال الخصب لديه ليكون لوحة فنية لا تقل لمسـاتها الجميلة عن الواقع
والآن لنأتي إلى البلاغة.... والتي أراها أجمل من المضمون، فترى عنفوان الفصاحة ينضح من كل جانب، مضمون، بيئة، سـرد الحدث، أبعاد، وحتى الحشــو... ولكي لا أطيل، سـأوجز ما أراه يشـدني
١
ـ أكثر بدايات ونهايات الحكايات غير مباشرة... فالفصاحة تعطي زخما لها حين يقول
ـ لم يكن الأول في تسلسل من أنجبتْ ( محبوبة )..... أو
ـ من عمره تجاوز الستين، ذلك ما تُفصِح عنه خصلات شعر تدلت فوق تجاعيد جبينه الحنطي..... أو
ـ أكثرَ من عَشْرٍ حجَّ بيت الله الحرام، واغتنى من وراء رميه الشيطان سبعين جمرة ما فاض عن حاجته من ثواب، فهو مِلْءَ
قامته مغمور بالثواب..... أو
ـ وصالح صارع الموت مُبتسما، قبضته لم تفارق عصا الزيتون..... أو
ـ قادمون، مغادرون، بهم تكتظ صالة المطار، أجناس، ألوان، ألسنة، أطفال يفتشون في جيوب أمهاتهم عن أسرار لم يفقهها الكبار بعد
٢ـ الحشـــو
... وهو النقش على النسـيج... بل وجهه، فقط انظروا إلى هذه الأمثلة من الروائع... ولكم الحكم
ـ معابر يقيم عليها عسس بوابات التفتيش
ـ ومضيتَ أنتَ في طريقك تجترُّ آلامك في سطور ترسم فيها هموما تشابه همَّك
ـ لم تسطُ على أوتاره أية أنامل من قبلُ
ـ الذين يسترقون النظر خلسة، وعلى استحياء، بيضاء كنتف الثلج تتأبط أسود كالليل البهيم
ـ اغتاظت الريح.... زارتهم قطرات غيث
ـ لو كانت الكف ملأى
ـ تفرقت ذريته، شـيت ابن آدم
٣ـ الحدث
وإليكم الأمثلة في بلاغة وصف الحدث
ـ حين اخترقت صدره رصاصة نفذت إلى موضع الموت واقفا يتحدى قاتليه الجبناء
ـ مزقت ثوبها أم شرهان، بترت ضفائرها، بالوحل تمرغت، لم يظهر منها سوى عينين بارقتين تخفيان خلف ذلك الحزن الأسطوري أملا في أن الظلام لابد أن يزول، وأن سيف الجلاد من كفه سيسقط يوما حتما؛ وسقط الجلاد!
ـ عدَّل ربطة العنق، وقرَّب طرفي السترة لبعضهما، تناول كفيها من جديد يعصرهما بقوة، ويسحبهما إلى صدره كأن جوهرة ثمينة قد سُرقت منه، وعلى حين غفلة عادت له، وبين يديه، ارتعاشة خفيفة اعترتها، وأغمضت الجفنين تحلم، تحلم أن كنزا أضاعته تعثر اليوم عليه، فلتتشبث به بكل ما أوتيت من قوة، ولتدعُ السماء لعلها تُعينها فتحفظه ولا تُفرِّط به، إنها نشوة ليست كنشوة الخمر، أغمضا الجفون وراحا يحلمان، ارتديا اجنحة وحلَّقا فوق السحاب، طائران بلا حدود، إلى جنة لم تأتِ على وصفها كتب الأديان
٤ـ الحـوار.
.. ومع علمي بأن الصادق هو كاتب مسـرحي، إلاّ أني إخترت لكم ما يلي
ـ شرهان - أيها الوغد - كم أنت متمرد على الأعراف والتقاليد، ألا تخشى غضبة السيد، ما أن انفكت عقدة لسانك حتى بدأت تتساءل بلا وجل، بكل وقاحة: "كيف تحميني من الهلاك تعويذة من ورق ملفوف بالقماش لا أفقه ما مكتوب عليه؟"
ـ هرولت باتجاهه وهي تصرخ بأعلى الصوت، أهذا أنت، أنت أيها اللعين الهارب من حياتي، أين أنت ؟ وأين كنت ؟ وماذا حل بك ؟ غير معقول أن يدور الزمان فألتقيك، وكيف ألتقيك ؟ فالذوائب قد ابيضت، ولاحت بوادر التجاعيد على الوجنات، وهل يُصلَح كأس بأيدينا كسرناه ؟ يالهم من كذابين اولئك الذين قالوا قد يموت الحب إن طال الفراق، وصادقة تلك التي قالت ذلك الدارمي الذي كنتُ لكَ أغنيه وأنت تداعب ضفائري الملقاة في جِجرِكَ، آخر الليل والبدر - احتراما لنا - يأبى الرحيل، ويترك العشاق، وأي عشاق، هم مجانين
ـ أأنت ( شرهان ) ؟ ( لا بيك، آنا مطشَّر ) ، مَن سمَّاك بهذا الاسم؟ ولماذا ؟ ( الوادم اتسميني مطشَّر؛ لأن أطشِّر بالحجي )، هذا اعتراف صريح إذن بأنك فعلا سياسي، سجِّل كل ما قال أيها المحقق؛ تصَنَّعَ الدهشة، نقَّل نظراته بين الجالسين ليُشركهم فيما هو مُندهش ( عليك العباس، يابيك، ترضى آنا جبير أخوتي أشتغل سايس خيل؟ ) انفجر الحاضرون بضحك تمثيلي مُبالغ فيه، مدير الناحية يجاملهم مُمسكا بطنه، متصنعا الضحك من الأعماق؛ استدار نحوه مُغيِّرا مجرى الحديث: اسمع يارجل، أنا أقصد هل تشتغل بالسياسة؟ السياسة اليوم إما أنْ تكون بعثيا؛ وإلاَّ فأنت شيوعي لامحال، بصراحة أجبني، أيٌّ من هؤلاء أنت؟ ( نعم بيك راح أعترف لك بكل شيء، آنا سياسي ). تحرك أفراد الحرس القومي من أماكنهم استعدادا لما هيَّؤوا أنفسهم له، تفحصوا أصفادهم، فتحوا أقفالها؛ ( يا بيك... آنا ... لا آنا بحثي، ولا آنا شوعي؛ آنا مُخراطي )، ثم افترشَ الأرض مُتربعا
٥- الإنتماء للوطن
وهي صبغة موحدة لكل حكايات الأديب الصادق، تجدها في العنوان، مثل; عركة بلشتية، أول شيخته شرّم تراجيها، لولا ( أمُّ الحبوكرِ ) لكُنَّا بخيرٍ، منْ زماااااان..... وغيرها
وكذلك تجدها في أسماء أبطاله مثل شــرهان ومطشــر أو بعض المفردات العاميّة الأصيلة مثل مكوار، كليجة، محكان، كوفية، وغيرها... والكثير الكثير من البلاغة التي هي أول ما يشـدني لحكاية يكتبها مديح الصادق... وأعيش معها كما باقي مفرداتها....وهذا والله إبداع... وللتأريخ أشهد بأن بلاغته كثيراً ما أثارت قريحتي فأردّ بنظم القريض
ملاحظة/ إن ما طرحته هو مجرد رأي