• Default
  • Title
  • Date
الثلاثاء, 19 كانون2/يناير 2016

اسباب انحسار اعداد الصابئة المندائيين عبر الزمن

  تحسين مهدي مكلف
تقييم هذا الموضوع
(3 عدد الأصوات)

اسباب انحسار اعداد الصابئة المندائيين عبر الزمن

كثيرا ما يتساءل الصابئة المندائيون عن سبب قلة عددهم مع كونهم اتباع اقدم ديانة معروفة ، ولعلها كانت الوحيدة السائدة على مدى قرون طويلة من الزمن على الاقل في تلك الرقعة الجغرافية التي كانت تسمى (الهلال الخصيب) ، ولكونها الديانة القديمة والوحيدة في زمن كان يخلو من اي معتقد توحيدي ، فهذا يعني ان معظم الشعوب القريبة والمحيطة كانت تنتمي ربما الى ذات الفكر والعقيدة التي يؤمن بها الصابئة المندائيون ، وهذا يقودنا الى الاعتقاد ان أعداد الصابئة كان كبيرا جدا ..

ان الصابئة رغم عمق وجودهم الزمني ورغم المحن والنكبات المستمرة التي طالتهم وألمّت بهم ، استطاعوا ان يجتازوا تلك المراحل الطويلة والمريرة من التاريخ ليطرقوا ابواب زمننا الحاضر بثقة ، حاملين معهم ارثهم الروحي الكبير . فكيف استطاعوا النفاذ بجلدهم من قسوة التاريخ وظلم البشر وهم يعبرون ممرات الزمن المهلكة ، فبقيت منهم بقية ، لو لم يكونوا في الاصل جموعا كبيرة العدد . لقد بقي الصابئة وهم الاقدم في حين انقرضت وتلاشت العديد من الاديان والطوائف واصحاب العقائد ممن هم احدث نشوءا .

من المحتمل ان الصابئة المندائيون كانوا كثيري العدد في زمن ما ، الى الحد الذي يمكن وصفه بأنهم كان – اغلبية – بين من يحيطهم من شعوب وطوائف ، لكنهم اغلبية مسالمة لا أطماع لهم ولا يبغون سوى تلبية نداء السماء في ان تكون حياتهم حياة قداسة وتعبد حتى بلوغ مرضاة الخالق والظفر بحياة النعيم الابدية في عالم النور . الا ان هذه الأغلبية دفعت ثمن بقائها من حياة ابنائها شيئا فشيئا حتى اوشكت على الزوال والانقراض ، فما هي الأسباب التي جعلت تلك الاغلبية تتحول الى اقلية ، ولماذا لاتزال هذه الاقلية تراوح في مكانها من ناحية العدد ، وكيف سيكون حالها ووضعها بعد قرن من الزمن مثلا ؟؟ هل ستضمحل وتزول، ام ان القلة الباقية من اتباع هذه الديانة ستحافظ على نفسها وعلى معتقدها رغم عنف الزمن وستستمر في الوجود مثلما استمر اسلافها من قبل ؟

ان البحث في أسباب مشكلة ما ، لا يعني بالضرورة حلها ، انما قد يؤدي ذلك البحث الى الحد من استفحال تلك المشكلة وتناميها .
ولعل الاسباب الرئيسية لأنحسار اعداد الصابئة المندائيين تنحصر بالآتي :

اولا . مشكلة الانسلاخ عن الديانة المندائية والانتماء الى اديان اخرى .

الانسلاخ عن الديانة الأم والانتماء الى اديان اخرى رغبة او قسرا هي واحدة من المشاكل الكبرى التي واجهت وتواجه مسيرة الديانة المندائية عبر تاريخها الطويل وهي مشكلة يصعب التحكم بنتائجها على المدى البعيد ، خصوصا في ظل وضع الصابئة الحالي بعد تجزأتهم الى مجموعات صغيرة ضعيفة متباعدة ومتناثرة هنا وهناك في بلدان العالم ، وحيث مغريات العالم المعاصر والانفتاح الكبير على الاديان الاخرى ، والروابط الاجتماعية الآخذة بالضعف والانحلال ، كل ذلك يدق ناقوس الخطر في هذا المجال بقوة مجلجلة .

ولا شك ان الاديان الثلاثة الكبرى قد احتوت او جذبت اليها حين نشأتها اعدادا كبيرة من الصابئة المندائيين ، وانجذاب الصابئة الى تلك الاديان ربما جاء تماشيا مع توجه جموع غفيرة من البشر صوب تلك الاديان الجديدة بسبب سطوتها الاولى القوية وتأثيرها على افكارهم وعواطفهم ، فآمنوا بها لأتخاذها مُنقذا ومَنفذا للخروج من نير العبودية والقهر الاجتماعي ، وبسبب ماوعدت به تلك الاديان من المساواة بين البشر ولزعمها السعي لأزالة الفوارق الطبقية واعانة الضعيف والفقير وغير ذلك من الوعود ..

هذا من ناحية الانتماء الى تلك الاديان عن رغبة وقبول حقيقي ، اما من ناحية الخروج عن الديانة الام (المندائية) واعتناق ديانة اخرى قسرا او اغراء او ترغيبا عن طريق المبشرين بتلك الاديان فهو امر عانى منه الصابئة المندائيون كثيرا وخسروا جرائه العديد من ابنائهم – اتباعهم – خصوصا عند مجئ الاسلام وبعد فتح العراق وبلاد الشام ، ومعلوم للجميع كيف عامل اصحاب الدين الجديد اتباع الديانات الاخرى وخصوصا الصغيرة منها ، وكيف واجه المندائيون العنف والاضطهادات بكل اشكالها ، والحديث في هذا المجال يطول ...

اما في العصر الراهن فأن وسائل الترهيب التي يستخدمها المتطرفون لأكراه الصابئة المندائيين على ترك ديانتهم والانضواء تحت لواء ديانة اخرى ، كانت هي ذاتها الوسائل التي استخدمت من قبل ولكن على نطاق ضيق ، مستغلين ظروف الحروب والفوضى وغياب القانون وضعف الطرف الاخر . ان وسائل الاكراه والترهيب تلك ارغمت العديد من الافراد على ترك العقيدة المندائية وقطع كل صلة تربطهم بها ، في حين لقي البعض الاخر حتفه حين ابى الرضوخ لمطالب المتطرفين .
ان النتيجة الحتمية لخروج الافراد والجماعات نهائيا من مجموعتهم الدينية ستؤدي الى تقليص العدد الكلي للمجموعة ، ناهيك عن تلك الاعداد التي يتم تصفيتها .

ثانيا . تحريم دخول (انتماء) الغرباء الى الديانة المندائية

ان المجموعات البشرية الصغيرة منها والكبيرة تزداد اعدادها مع الزمن بنسب طبيعية ومعروفة مالم تلم بها كوارث كبرى تحد من نموها السكاني . ويزداد سكان العالم بنسبة تتراوح بين 4ر1 % و6ر1% سنويا . ويعتبر المختصون ان الزيادة السنوية لنفوس اي بلد تنتج من حساب (عدد الولادات + عدد الوافدين) مطروحا منها (عدد الوفيات + عدد المهاجرين) وهذا الامر ينطبق على حالة المجتمع المفتوح ، اي الذي يستقبل الوافدين ( كلمة الوافدين هنا تعني كل شخص راغب بالانتماء الصميمي الى ذلك المجتمع) قلنا ان تلك النسب والنتائج تنطبق على المجتمعات المفتوحة ، اما في حالة المجتمع المندائي – موضوع هذه الدراسة – والذي هو من نوع المجتمعات المغلقة فلا تنطبق عليه تلك النتائج والنسب .

فالديانة المندائية ديانة غير تبشيرية بحسب التعاليم التي توارثها الابناء عن ابائهم واسلافهم ، وبهذا تم تحريم قبول ودخول اي افراد من اي جنس او عرق او دين الى هذه الديانة او الاختلاط بأفرادها او مصاهرتهم ، وهذا الامر جعل الشعب المندائي يراوح مكانه من ناحية العدد ، فليس هنالك من اعداد اضافية جديدة تنضم اليه لتزيده عددا كما هو الحال مع اتباع الاديان الاخرى التي تنمو اعدادها بسرعة كبيرة نتيجة استقطابها وقبولها جموعا بشرية من كل جنس ولون وبشكل دائم. واصبحت مسألة زيادة اعداد الصابئة مقتصرة على امر تزاوجهم وتناسلهم فيما بينهم ليس الا.
اذن في الحالة المندائية هنالك مهاجرون (خارجون منها) وليس هنالك وافدين (منضمين اليها)، فمن المؤكد والحالة هذه ان يكون العدد الإجمالي في حالة انحسار مع الزمن بدل ان يكون في حالة تزايد ونمو . والديانة المندائية هنا مثلها مثل بحيرة مغلقة لايغذيها اي مصدر مياه ، فما تلبث والحالة هذه ان تنضب مياهها وتزول .

ثالثا . العزوبية (العزوف عن الزواج) والزواج المتأخر

في مجتمعاتنا العربية قد تكون الظروف الاقتصادية المتردية والبطالة والغلاء ، سببا في عزوف الشباب عن الزواج .. فالعائق المادي سبب مهم اضافة الى اسباب اخرى كالانشغال بالحياة العسكرية او الدراسة او السفر او المرض اوغير ذلك .. وقد يكون لمتطلبات الزواج (التحضيرات والمستلزمات) العديدة والباهضة التكاليف التي تشترطها الفتاة وذويها ، والمغالاة في المهور ، دور مهم في دفع الشباب الى الغاء فكرة الزواج او تأجيله الى زمن آخر قد لايأتي. او قد يأتي الزواج في وقت متاخر بالنسبة الى عمر الزوج او الزوجة مما يؤدي الى تحديد النسل حتما وبالتالي الى انحسار عدد افراد المجتمع .

ومن الاسباب المهمة التي ادت وتؤدي الى قلة الزواجات عند الصابئة ، هي الانغلاق وتحريم الأقتران بأفراد من ديانات اخرى ، فهذا يؤدي الى تحديد الخيارات، وبالتالي قد لايجد الفتى ضالته المنشودة ، اي شريكة الحياة المناسبة ، فيفضل حياة العزوبية على حياة اخرى قد يعتبرها مجهولة العواقب فيتجنبها مرغما. وقد دفع الصابئة المندائيون ثمن هذا الانغلاق غاليا وفي كافة النواحي ، وهو انغلاق فرضته وصايا الدين ولامجال للحيلولة دونه .

كذلك فان مشكلة التشتت وتباعد المجموعات السكانية المندائية وانعزالها عن بعضها ، وعدم التقاء تلك المجموعات او اختلاطها واندماجها ، يمكن اعتباره سببا مهما من اسباب عدم الاقتران وبالتالي عدم تكوين أُسر جديدة .

كما أن المحن المتواصلة بكل اشكالها التي تمر بها مجتمعاتنا ومرارة واقعنا المتردي والنظر الى المستقبل بتشاؤم ، كل ذلك يؤدي الى اصابة الشباب باليأس والاحباط وقد يدفعهم الى التمرد على الواقع او الى الهجرة الفردية الى خارج اوطانهم ومن ثم ضياع العمر في خضم هذا العالم الواسع دون ان تتاح لهم فرصة الزواج .

رابعا . الكوارث والحروب والتصفيات والامراض الوراثية

لاشك ان طائفة الصابئة المندائيون كانت تخسر في كل حقبة من الحقب القاسية التي مرت بها اعدادا كبيرة من ابنائها كضحايا، نتيجة القتل والتغييب والتشريد وتغيير الديانة بالاكراه ، وغير ذلك من وسائل الاستئصال ، حتى لم يبقَ منها اليوم الا اعداد بسيطة .
لقد واجه الصابئة المندائيون القدماء محنا وضيقات كبيرة ادت الى تفتتهم الى مجموعات صغيرة متناثرة تعيش في الخفاء هنا وهناك في الاماكن المنعزلة والنائية ، وقد طال القتل والملاحقات في العصور الماضية حتى رجال الدين وكل من له صلة بالسلك الكهنوتي فعمت الفوضى حياتهم وانزوى منهم من انزوى خارج حركة المجتمع واختفى البعض الاخر او غير عقيدته بالاكراه، وبسبب تعرض الصابئة لتلك المحن المتواصلة فأن اعدادهم تضاءلت كثيرا مع الزمن ، ولازالت غير قابلة على النمو .

من جهة اخرى فأن الحروب والكوارث الطبيعية والصحية التي ألمّت بالمجتمع العراقي قد طالت المجتمع المندائي ايضا فهو جزء من ذلك المجتمع الكبير ، فما حصل من مجاعات وفيضانات وانتشار للأوبئة والامراض وما نتج من موت وقتل نتيجة للحروب وللأحتلالات المتواصلة لأرض العراق منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، كل ذلك لاشك ادى الى خسارة لايستهان بها لجزء من الشعب المندائي القليل العدد أصلا .

كما لايُخفى على الجميع أن البيئة التي سكنها المندائيون طوال تاريخهم وحتى منتصف القرن العشرين (وربما بعدها بعقدين) كانت بيئة متواضعة تفتقر للخدمات الصحية ولشروط الحياة السليمة والطبيعية (كان سكان تلك البيئة يشربون المياه من الانهار والترع) فكان انتشار الاوبئة والامراض الخطرة سائدا ومتواصلا ، وفي ظل ضعف الخدمات الطبية وضعف الجانب المادي للأهالي إضافة الى الجهل وقلة الوعي والإهمال فأن الأصابات بالامراض المختلفة كانت تفتك بالناس بأستمرار . وفي الكثير من الأحيان كانت الأسر المندائية تفقد العديد من ابنائها وهم في سن مبكرة .

كما ان مسألة تحريم اقتران الصابئة (ذكورا واناثا) بأفراد غرباء (من ديانات أخرى) ادى الى انغلاق ابناء الطائفة على بعضهم واصبحت الزواجات محصورة في حدود مجموعتهم الصغيرة، فصار ما يعرف بزواج الاقارب هو السائد ، ومثل هذا النوع من الزواج كما هو معلوم يؤدي في اغلب الأحيان الى ظهور صفات جينية ضارة وغير مرغوبة (بعض تلك الصفات قد لا تبدو ظاهرة الا على المدى البعيد) ، ونتيجة لذلك ربما يكون الصابئة ورثوا عن اسلافهم الامراض المزمنة والخطيرة كالسرطان والسكري والضغط وغيرها من الامراض التي تؤدي الى حدوث وفيات مبكرة ، وهذا يؤدي الى زيادة في المعدل العام للوفيات وبالتالي انخفاض في اعداد الصابئة .

نتيجـة

الاسباب التي ادت الى انحسار اعداد الصابئة المندائيين عبر الزمن اغلبها ذاتي ، اي نابع من داخل تكوين هذه الديانة ونمط مجتمعها وتعاليمها .. وهذه الاسباب لا زالت قائمة ، ولازالت تمتلك نفس تأثيراتها السابقة ، اي الحد من تنامي عدد أفراد هذه الطائفة ، وسيبقى هذا العدد في حالة انكماش طالما بقيت الاسباب . لهذا فلا غرابة في ان تكون ديانة الصابئة المندائيين هي الاصغر من ناحية عدد الاتباع بين الاديان القائمة اليوم في العالم .

حلول وافكار لمعالجة المشكلة

اولا . العمل على ازالة العوائق التي تحد من الزواج .
ثانيـا . التشجيع على زيادة النسل – الانجاب .
ثالثـا . توجيه الفتيان والشباب وتوعيتهم اجتماعيا ودينيا للحد من انفلاتهم الى الاديان الاخرى.
رابعا . بناء علاقات متينة مع قادة واتباع الديانات الاخرى للحد من الاضطهادات والتصفيات .
خامسا . التوعية الصحية المستمرة للحد من الاصابة بالامراض الخطرة .

...................................................................................

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014