• Default
  • Title
  • Date
الأربعاء, 31 تموز/يوليو 2013

فـــــن صياغـة الفضـــــة

  فاروق عبدالجبار عبدالامام
تقييم هذا الموضوع
(3 عدد الأصوات)

مهداة إلى الذين أفنوا زهرة شبابهم ليخلدوا بفنهم  دينهم ومعتقداتهم

 

فطوبى لمن وهب الآخرين بعض ما وهبه الحي الأزلي  وبارك في أبنائهم وأحفادهم 

 

                                                 كيلا ننسى .....    

 

                                        فـــــن صياغـة الفضـــــة

 

من أبرز الفنون والحرف التي برع فيها الصابئة المندائيون وكان لهم فيها باعٌ طويل  ،وتميزوا بها عمن يحيطون بهم   فن الصياغة  - فن الصياغة إمتاز بوجوده في المناطق الحضرية كالمدن الكبيرة  مثل البصرة والعمارة والناصرية إلا أن الأهم بين تلك المدن كانت وما  زالت بـغـداد عاصمة الدولة العراقية وهي حاضرة العراق الأولى والأهم ، وفيها أضحى فن الصياغة ما لا يمكن إغفاله أو التغاضي عنه ؛ فهو موجود وبتميـّز في أرجاء بغداد الرحبة.

 فن صياغة الفضة واحدٌ من الفنون التي لا تنفصم عن فن الصياغة بشكل عام  ألا انها إمتازت عنه في فترة أنحسر فيها إستعمال الذهب لأمورٍ عديدة ٍلا مجالَ لذكرها هنا  ؛  لذا كانت الفضــة السيدة الأولى في هذا المضمار، وفي هذا الفن البديع  ؛ لما لها من مكانة خاصة في نفوس الأوربيين الذين توافدوا على العراق لأغراضٍ وغاياتٍ مختلفة ، منها التنقيب عن الآثار  ،ومنها التعـّرف على عادات وطبائع الشعب العراقي  ، ومنها أغراض تبشيرية بالدين المسيحي  ،ومنها أغراض إستعمارية ؛ لذا تعددت الغايات وأضحى العراق في وقت ما محط أنظار الكثيرين الذين لفت أنظارهم فن صياغة الفضة ؛ فازدهر هذا الفن وأينع وأعطى ثماراً غاية في الجمال والروعة لا نجد مثيلها في دول المنطقة المحيطة ببلدنا العراق  الغني بمفرداته  ، وتنوّع نسيجه الإجتماعي على الصعيدين ( الديني والقومي  ؛ ففيه ، عرب وأكراد وتركمان وفيه ، مسلمون ومسيحيون ويهود وصابئة مندائيون ويزيدون وشبك ).

قبل منتصف القرن العشرين وخاصة في الثلاثنيات والأربيعينات والخمسينيات وحتى الستينيات  كانت صياغة الفضة مورداً مهماً لمعظم العوائل المندائية التي كانت تشتغل في هذا المجال ؛ لذا كنت ترى محلات  صيّـاغ الفضة والتي تمتد بين جسري (( مود والجسر العتيق ) *1* والتي تغير إسميهما الى ** جسر الأحرار وجسر الشهداء **وخاصة في شارع المستنصر (( النهر )) والذي أخذ إسمه لاحقاً من نهر دجلة الخالد  ، خلود العراق و إبتداءاً من بناية  الاوروزدي  القديم وصولاً إلى جسر الأحرار ، وعلى جانبي هذا الشارع  .  لقد كانت تلك المحلات التي لا تزيد معظم مساحاتها عن الست أو السبع أمتار المربعة ؛ إلا أن بعضها الآخر كان أوسع وأكبرمساحة عن مساحة الباقين ، وأذكر هنا محل  الشيخ عنيسي الفياض ومحل ياسر صكر وكذلك محل أمجد واسعد باحور  وكذلك محل صالح حاجم  واذا نسيت فأنني لا انسى محل ابو صباح وأقصد به محل ناجي مريبط ( ناجي المباركي)  ويقابله محل طيب الذكر ( خليل مالله ) تلك المحلات كانت وحسب ما أذكر  من أكبر المحلات التي تتعامل بصناعة الفضة والتي انتقل بعضها لصناعة الذهب لاحقاً ،  أما من كانت محلاتهم صغيرة بمساحتها إلا إنها كبيرةٌ ؛ فيما كانت تعرضه ،  منها محل (( دايل عبدالحسن وشريكه زيدان ) وكذلك محل جبار خضير  وصالح حاجم  ،وغيرهم كثيرون ، وعذراً جميلا ًاذ نسيت بعض الاعلام المندائيين في شارع الفضة والجمال *،  كانت تلك المحلات تزهو بما تعرضه في واجهاتها و[ جاماتها ] الصغيرة من بديع هذا الفن العراقي المندائي الراقي ، والتي كان معظم الصاغة يجلسون مفترشين الارض  لكن بهيبة ووقار قـلّ نظيرهما  ،  كنت تجد مصوغاتٍ مختلفةً منها صناعة علب السكائر والتي كانت رائجةً أنذاك لما كان يمثله المدخّـن  بأنه من الطبقة العُليا من المجتمع لذا صار لزاماً عليه أن يقتني ما يناسب حالته الإجتماعية  والإقتصادية ؛ ولذا كان المندائيون يتفنون بإخراج تُحفٍ ، تجلب لهم الزبون الذي لا يبخل  بعطائه ، كانت تلك العلب التي  يُنقش عليها نقوشاً تحاكي الطبيعة العراقية الغنية بمفرداتها ، الخلاّبة بمحتواها ؛ فهنا أسدُ بابل ، وهناك سفينة ٌشراعيةٌ  تمخّـُر عُبابَ الشط ، وتلك قافـلة ُالجِمال التي توحي إليك بالصحراء  ، وفيها ستجد الهادي الذي يسير أمام القافلة  ، والحادي الذي يسير خلفها والذي كثيراً ما كان عليه الغناء  [الحدو ] وترى بقية الركب و الهوادج الذي تحمل النساءَ والأطفال خاصة ، وهي تسير بشكل يُـوحي  بالبطء والتثاقل ، وفي مكان آخر تجد  (( الكَفـة )) القفة  وخلفها صورُ النخيل الباسقة تحفُّ بها ، وهناك بعيداً تجد صور القِباب و المنائر في الجوامع  الإسلاميّة ، تعلو منادية ربَّ السمواتِ والارض  ، وعلبة أُخرى تجد فيها الثورُ المجنّـح بشموخه وبارتفاعه  المتميّـز عما يحيط به  ؛ وكأنه حارس ٌأبدي  وليس ببعيد عنها تجد بوابة عشتار وأسودها المجنحة التي تحرس هذه البوابة من الدخلاء والمتسللين ، وفي اخرى نجد نقشا" لطاق كسرى والقصب والاهوار  . أنه عالم خصب بمفرداته وبفنه الذي لن يتكرر .

لم تكن علب السكائر هي الوحيدة التي تستأثر بهذه النقوش وهذه الزخارف بل تتعداها الى الملاعق الصغيرة والكبيرة ؛ ملاعق الشاي والطعام  والسكاكين والشوكات ، أما أدوات القهوة فلها وجودها الى جانب أدوات الحلاقة  وأطارات الصور المختلفة المساحات وظهر في فترة لاحقة فن صناعة اللوحات الجدارية والتي تحمل صيغا" جمالية غاية في الروعة والجمال  ، وعلينا أن لا ننسى فن  صناعة دلال القهوة وفناجينها الصغيرة والتي كانت تصنع لها  ** صواني خاصة تتسع للدلة والفناجين فقط و قد  تخلو الصينية من النقوش أمّـا الدلة والفناجين فكان لها النصيب المُعلـّى من هذه الزخرفة وتلك الرسوم ، أمّـا صناعة أدوات الشاي فكانت تقتصر على   مواعين الشاي والتي كثيراً ما كانت تُعمل بشكلٍ مغايرألاوهو قطع وسط الماعون بشكلٍ دائريٍّ معروفٍ ومعلومٍ لدى الصائغ الماهر ؛ ليقوم بعدها بلحيم  {{ ريال }} فضة يحمل صورة الملك فيصل الاول على الوجه  ويترك الكتابة لتكون قاعدة الماعون ، أو صورة أحد الملوك الانجليز  أو الروبية الهندية وفي بعض الاحيان يُلحم ريال يحمل  صورة  أحد أكاسرة الفرس .

[ القران ]  2* وكذلك نشطت صناعة  أدوات تقديم الحلوى والمكسرات وهذه كان يدخل المنشار في زخرقة جوانب الآنية  ، ويقتصر النقش على وسط الإناء فقط ،  وازدهرت كذلك صناعة علب [ البودرة ] بأشكال وتصاميم تكون دائرية الشكل عادة ، وينقش جوانب وغطاء العلبة ،  كذلك كانت هنالك  صناعة اخرى دقيقة  ألا وهي فن صناعة {{ الكشتبان ْ}} والذي كان يوضع في طرف الاصبع الصغير (الخنصر ) عادة لدفع ابرة الخياطة  اليدوية إلى القماش المُراد خياطته ؛ فرغـم صِغـر هذا الكشتبان إلا أن الصائغ المندائي المتميّـز بفنه ، لم يبخل بوضع فنه فيه   .

 

في كلِّ هذه الصناعات المميزة كانت المينا السوداء حاضرةً ؛ فهي التي تُضفي جمالاً وتُعطي إنطباعاً جميلاً ؛ حيث يظهـرُ  التباين بين الظل و الضوء بشكلٍ مثيرٍ للمتعة  ويخلق الإندهاش. لقد كان عمال تنظيف الفضة والمينا يصرفون الساعات الطويلة وهم يستعملون ورق السنفرة والمبارد الناعمة أو الخشنة  من أجلِ إظهار النقش ؛لذا يبدأون أول الامر بحكِّ  المينا الزائدة بحرص وتؤدة مخافة أن يزل العامل ويُزيـل أكثر مما هو مقرر،  وبالتالي سيتلف النقش الأمر الذي  يتطلب ترميم النقش أو إعادة النقش برمته لو تطلب الامر ذلك  ؛    لتصبح  القطعة  الفنية جاهزة  للتلميع والعرض بعد حين  .  كانت تلك التحفُ التي تخرج  من تحت أيدي الصانع الماهـر كلُّها صناعة يدوية لا تُستعمل فيها إلا أدواتٌ قليلة وهي عدة الصائغ وهي في معظم الاحيان لا تتعدى قلم النقش والمسن والمبرد والمنشار و{{ المتـة }} * المثقب اليدوي * اضافة الى الكورة المصنوعة من الطين المفخور والتي يُـدفع الهواء إليها عبر القربة والتي تكون عادة مصنوعة من جلد الخراف أو الماعز  ؛ لما تتماز به  هذه  الجلود من خفة ومطاوعة في النفخ وليست ذات أحجام كبيرة فيما لو أُستعمل جلد البقر بدلاً عنها  .

 

كانت صناعة الفضة والنقش عليها  * فناً مندائياً * يُشار إليه في المحافل ويدخل في منافسات المعارض الصناعية الأجنبية والمحلية  والتي لو إحتفظ بقسم منها لكانت اليوم مفخرة مندائية وإرث مندائي يُضاف إلى إرثهم الديني والحضاري

 

 فاروق عبدالجبار عبدالامام

 

   *1 جسر مود سمي بهذا الاسم نسبة الى القائد الانجليزي الذي دخل العراق عام 1917 وقال بأن الانجليز يدخلون العراق محررين لا غازين وتم تغير الاسم بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 الى اسمه الحالي ** جسر الاحرار وفي نفس الوقت   تمَّ تغيّـر اسم الجسر القديم أو الصغير أو العتيق إ لى إسمه الحالي بعد أن سقط  بعضُ المتظاهرين  العراقيين شهداءً عليه (( . جسر الشهداء: هو جسر يربط منطقتي الرصافة والكرخ في بغداد, شُـيّـد الجسر عام 1940 . أطلق عليه قديماً جسر المأمون أو الجسر العتيق سمي بجسر الشهداء بعد ثورة 14 تموز التي أدت إلى قيام الجمهورية العراقية عام 1958 تخليداً للشهداء الذين أطلقت عليهم الشرطة في زمن الحكومة الملكية الرصاص وسقطوا من على هذا الجسر, واسقطت مظاهرات جسر الشهداء الحكومة العراقية في 1948 وتم تبديل الوزارة نتيجة لذلك الحادث. أسقطت الشرطة كمـاً كبيراً من القتلى بعد أن نصبت الرشاشات والبنادق فوق البنايات والمساجد المطلة علي الجسر وخاصة جامع حـّنان [ يقع الآن في ساحة الشهداء - جانب الكرخ  - وجامع الآصفية [ يقع في مدخل سوق السراي ، في الرصافة  ]  الواقعة في أكتاف الجسر واخذت تحصد المتظاهرين فوق الجسر, سقط خلالها عشرات الشهداء ومئات الجرحي.  في جانب الرصافة يلتقي جسر الشهداء بشارع الرشيد المشهور في بغداد  ))  ( وكيبيديا  الموسوعة الحرة ) أي أن الشرطة كانت تنتظر المتظاهرين على جانبي الجسر  [ الكاتب ]

 

 

 

*2 -الريال : عملة عراقية كانت تستعمل قبل قيام ثورة 14تموز 1958 وكانت تساوي الــ 200 فلسـاً أي أقل من ربع الدينار ، أمّــا القران فهي  عملة كانت تساوي الــ  20 فلسا" وكلاهما مسكوك من الفضة .

 

 

 

* - كان محل أبي ، في خان الياهو دنكَور القريب من خان الشابندر ، لكن ولأن محلات الشابندر كانت تغلق قبل محلات شارع النهر ؛ فكنت وأبي نتجه إلى شارع المستنصر ؛ فلأبي أكثر من قريب وأكثر من حبيبٍ وصديق في هذا الشارع    

 

-*  وامتاز المندائون بأنهم أجادوا  فناً آخر وأقصد به فن صناعة الزوراق الخفيفة  [ المشاحيف ] وكذلك الحدادة  ؛ وخاصة أدوات صيد السمك - الفالـة - اليدوية وما يتعلق بها  ،ش والحرفتان الاخيرتان ظهرتا في المناطق الجنوبية  من العـراق لما  إمتازت به تلك المنطقة من وجود المسطحات المائية الكبيرو كالأنهار والأهوار التي تُغطـّي مساحاتٍ  شاسعةً بين جنوب  ، وجنوب شرق العراق وصولاً الى الحدود الإيرانية الغربية  ، بل إن معظم هور الحويزة يتمد الى مسافات ليست بالقليلة في تلك الحدود ومع هذا الامتداد إمتد المندائيون إلى  إيران ؛ فلم  تكن هناك حدود جغرافية أو سياسية ، تمنع الإنتقال  في الأهوار ؛ فليس من السهولة تحديد الحدود على المسطحات المائية  .

 

1  /  1 /2007

 

 

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014