اشتهر ريشارد فاغنر (1813 – 1883) بتأليف الأوبرات وبكتاباته عن الموسيقى وابتداعه قواعد للدراما الموسيقية التي لم يسر عليها أحد سواه. لكنه ألف كذلك القليل من الموسيقى الصرفة، بينها قطع للبيانو وسوناتات كتب أغلبها في شبابه. وقد فقد الكثير منها أو لم يكمل الجزء الآخر، وهي حالة استمرت معه طول حياته، فكثيراً ما بدأ بتأليف عمل ما من هذه الأعمال لكنه يتركه جانباً ولا يكمله، لربما بسبب انشغاله بتأليف أعماله الدرامية الضخمة. مع ذلك يرتبط الكثير من هذه الأعمال الموسيقية الصرفة بالمسرح، مثل الافتتاحيات التي تفتتح بها الأوبرات، وكل هذه الأعمال ليست ذات أهمية كبيرة. الاستثناء الشهير هو عمله المسمى "إيديل سيغفريد" الذي كتبه سنة 1870 لشدة فرحه بوليده سيغفريد. وهو عمل رقيق وحميم فاجأ به زوجته كوزيما ليست وقدمته جوقة صغيرة من موسيقيي فرقة من زيوريخ بقيادة قائدة الاوركسترا الشهير هانس ريختر أمام بيته.
نجد بين أعماله سيمفونية في دو الكبير ألفها سنة 1832، أي قبل بلوغه العشرين من العمر، جاءت بعد تأليفه سوناتاتين للبيانو. من يسمع السيمفونية هذه سيحس فوراً بقربها من أعمال بيتهوفن، وسيمفونيته السابعة بالتحديد. إذ لم تمر سوى سنوات قليلة على وفاة بيتهوفن العظيم، ولازال الموسيقيون تحت سطوة اسطورة بيتهوفن وتأثيره. كما نلمس التأثير المباشر لموسيقى شوبرت الذي توفي بعد بيتهوفن بقليل، بالتحديد تأثير سيمفونيته الكبرى في نفس السلم. كتب فاغنر هذه السيمفونية في بحر ستة أسابيع، وهي فترة قصيرة بالنسبة لموسيقي في مقتبل حياته الفنية. استعمل فاغنر اوركسترا صغيرة، ثنائية، أي بزوج من الأدوات غير الوترية، لكن مع أربع من أدوات الهورن وثلاث من الترومبون. يستغرق تقديمها أكثر من نصف ساعة بقليل.
ويعرف عن هذه السيمفونية أن فاغنر أهداها الى الموسيقار العظيم فيلكس مندلسون بارتولدي، لكنه لم يستلم منه جواباً، ولم يقدمها مندلسون. ويعتقد الكثيرون أن هذا الأمر كان وراء تبلور آراء فاغنر المعادية لليهود (فقد اعتبر مندلسون يهودياً، رغم اعلان عائلته تحولها للمسيحية وتعميد فيلكس واخته فانّي). وكان للموسيقي الألماني اليهودي جاكومو مايربير كذلك حصته في تزايد كره فاغنر لليهود رغم كل ما فعله مايربير لمساعدته ودعمه خاصة لتقديم رينزي وهي واحدة من أول اوبراته الناجحة.
هناك سيمفونية ثانية في سلم مي الكبير تعود الى سنة 1834، أكمل فاغنر كتابة مسودة حركتها الاولى وجهز مخططاً لحركتها الثانية. لذلك يصعب الحديث عن سيمفونية ثانية، إذ ما نسمعه اليوم هو التوزيع الاوركسترالي أنجزه الموسيقي النمساوي فيلكس موتل (1856 – 1911) بعد وفاة فاغنر. على العموم تشير مادة هذه السيمفونية الى تجاوز فاغنر التعلق ببيتهوفن الى التأثير بالموسيقيين الرومانتيكيين مثل كارل ماريا فون فيبر، وبسبب تزايد خبرته في الكتابة في مجال الأعمال المسرحية، فقد كتب أول أوبرا كاملة بعنوان الجنيات، سنة 1933.
××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××
السيمفونية في دو الكبير
https://www.youtube.com/watch?v=m4_V7E__ehY
من أشهر أعماله الموسيقية الصرفة: إيديل سيغفريد
https://www.youtube.com/watch?v=ci8uNw-LzSE
الجزء الأول
الغناء في جنوب العراق الذي يطلق عليه الغناء الريفي فهو متنوع الاطوار والالوان والأداء.المحمداوي لون غنائي ريفي مختص بمدن وريف محافظة ميسان، يغنى على مقام( نغم) الصبا، يغنى بعدة اساليب منها المحمداوي الساعدي ويغنى من بحر الموشح ويسمى ايضا أبو انخيلة وينسب الى عشيرة السواعد وهناك لون ( الذب) ولون (الواجف) ولون ( الكحلاوي) ولون الفالحي ولون (الدارج) وهنا الوان غناها المرحوم جويسم كاظم بطريقته الخاصة ولون سيد محمد النوري ،ومعظم اشعاره ذات سبعة ابيات من شعر الزهيريات. وهنا نشير الى هذا النوع من الشعر اول من كتبه هم الشعراء من العائلة الزهيرية، لكن لم يعرف متى وكيف ،ومن شعراءه هو ملا جادر الزهيري،الفنان والمطرب والشاعر والذي تتلمذ على يده الفنان الراحل حضيري ابو عزيز، كذلك من ابدع من كتب الزهيريات هو الشاعر الكبير ملا زاير.بالاضافة الى البستة الذي كانت تغني بعد فصل من اداء احد او اطوار الابوذية والمحمداوي . اما البستة ،فلها مغنوها الخاصون امثال الفنانة الكبيرة الراحلة مسعود عمارتلي.
اما الابوذية ذات الاربعة ابيات شعرية فاكثر محافظة غنى مطربوها عشرات الاطوار هي محافظة ذي قار بكل مدنها وريفها.
الطور يعني طريقة او اسلوب يعني به المطرب والذي يجب ان تتلائم مع طبقته الصوتية والشعر الملائم لهذا الطور.. يغنى الابوذية على احد النغمات او المقامات كالنهاود او الحجاز او البيات. الخ.. فلو اخذنا طور الصبي والذي يعني علة نغم النهاود مثلا. فهذا يحتاج الى مطرب بطبقة التنر (Tenor) الرجالية ويجب ان يمتلك المؤدي مساحة صوتية للصعود والنزول الاوكاتفات, بالاضافة الى نفس طويل.. الكثير من غنوه لكن حسب امكانياتهم وطبقات أصواتهم, لكن من اجاد هذا الطور بشكل دقيق هو المرحوم ، حسن داوود. ولهذا تجد الملحن عندما يلحن اغنية, يعني ان هذا اللحن وهذا النص الشعري يتناسب مع صوت المطرب الفلاني لكل يعطي الاداء حقة وجماليته.
عادة هذه الاطوار تسمى باسم مغنيها او اسم المنطقة او المدينة مثل طور الشطراوي نسبة الى مدينة الشطرة وطور الحكيمي نسبة الى الفنان ناصر حكيم, اذ كان في السابق هو المغني وهو الملحن اي غناء طور واحياناً كثيرة هو الشاعر, لما يلائم صوته..
مع الاسف اختفت كثير من هذه الاطوار بسبب صعوبة الاداء, اذ كان المطرب في السابق يعتمد على امكانية صوتيه حيث لاتوجد اجهزة تكبير ومعالجات الصوت مثلما موجودة حاليا. ويقال لو غنى المرحوم شخير سلطان , فان المكان يرتج من شدة صوته وعذوبته..
لم تدون الاغنية العراقية الا في بداية القرن العشرين ،بعد دخول الانكليز للعراق بعد ان كان تحت السيطرة العثمانية . وكذلك ان اجهزة التسجيل لم تكن معروفة آنذاك إلا بعد اختراع توماس الفا اديسون، مخترع المصباح الكهربائي، الذي اضاء البشرية جميعاً ، لجهاز الكرامافون ،هذا الاختراع العظيم الذي سجل من خلاله تراث الاغنية العراقية, فأول شركة دخلت العراق هي شركة بيضافون ما بين 1924-1925 وهي المانية الاصل مقرها في بيروت, للأخوين بطرس وجبران بيضا. ثم شركة هزماسترفويس. كان التسجيل ميكانيكي يعتمد على ذبذبات الصوت وبطريقة الترسيب النحاسي للمسودة ثم طبع الاسطوانة التي يطلقون عليها, الشمعية او القيرية والتي لا يتجاوز وقت التسجيل للوجه الواحد من الاسطوانة سوى خمس دقائق وبسرعة 78 دورة بالدقيقة. جهاز التشغيل الكرامافون عادة هو ميكانيكي فكان يدار باليد ضمن منظومة نوابض ،كذلك لم تكن هناك مرشحات او معالجات للصوت مثل ما هو موجود حاليا. مع هذا فانه يعتبر التوثيق الاول لأساطين الغناء العراقي. اما الفرقة الموسيقة التي رافقت المطربين آنذاك فتتكون في كثير من الاحيان من صالح الكويتي عازف كمان واخيه داوود عازف عود، فهما ملحنان وعازفان، عزوري العواد ،عازف عود، يوسف زعرور ،عازف القانون، يهودا شماس عازف ايقاع، عيسى حويلة شاعر وعازف ايقاع . وسجلت هذه الشركات للعديد من المطربين آنذاك امثال رشيد القندرجي ومحمد القبانجي وحضيري ابو عزيز وناصر حكيم والقائمة تطول وكانت الشركات تبحث عن الاشخاص الذي هم فعلا فنانون وذوو قابليات ممتازة ومنهم رائد البستة والاغنية العراقية مسعود العمارتلي..
الجزء الثاني
مطربون خالدون
1-رائد البستة والاغنية العراقية مسعود العمارتلي
تلك الامرأة الثورية والمتمردة على جور الاقطاع والظلم .فاذا كتب الشاعر جميل صدقي الزهاوي قصيدته:
اسفري فالحجاب يا ابنة فهر هو داء في الاجتماع وخيم
فان مسعود كتبت ولحنت وغنت العشرات من الاغاني تجاوزت الستين وكل واحد لها لونها ولحنها الخاص ،ومنها هذه الاغنية الجميلة التي دعت للنساء من التحرر:
ذبي العباية وسوي علي احسان ( يمكن الاستماع على اليوتيوب)
https://www.youtube.com/watch?v=cvy_vSSQSbM
وفي عام 1919 الفت وغنت مسعود اول اغنية سياسية في مقاومة الاحتلال الانكليزي للعراق وكان عمرها لم يتجاوز الثالثة والعشرين ومطلعها:
خانة يخوانة
الحلو. الشهم من سرفن اردانه
لاجت اجخير وهيسي
ذبوهه على اليردي
انطلج مرته اللي يجفي
أغم أنبدي فنجانه
الحلو من سرفن اردانه
( لم تسجل هذه الاسطوانة مع الاسف).
مسعودة ،هي التي تنازلت عن انوثتها ولبست الكوفية العقال وطالست الرجال ،مسعود صاحبة الصوت الجميل العذب بطبقة الالتو ذي البحة الجنوبية. مسعود خامة صوتية نادرة بطبقة الالتو , هي المغني والملحن والشاعر في اغلب الاحيان. كل اغنية تؤديها يختلف لحن الواحدة عن الاخرى.. كلمات بعض اغنياتها تتجاوز الوصف برغم من فطريتها .. فعدما نقول ( تراه الموت مايعرف خطية)، فاي وصف هذا . غنت مسعودة وسجلت لها اكثر من ستين اغنيه، وهي على شكل ( بستة) وقد شاركها بعض المطربين من جيلها مثل حضيري ابو عزيز وحريب صنكور وعيسى حويلة ببعض التسجيلات آنذاك, انها مدرسة الاغنية الحديثة والتي راح يقلدها بعض المطربين الشباب مثل مهند محسن وصلاح حسن واخرين.
ملاحظة: 1-عند الاستماع الى اغاني مسعود تجد ضرب الاصابع والمطقة (المطكة) مشارك للايقاع .. هي للراحل المطرب حضري ابو عزيز ..2- يذكر اسم ,بدرية, في اغاني مسعود ويقصد بها اسم المطربة الراحلة بدرية انور).
https://www.youtube.com/watch?v=Qj6NsRWJ-no
https://www.youtube.com/watch?v=hhDfGEQDvKw&t=97s
يمكن الاستماع اليها من خلال اليوتيوب
2-ثنائي جويسم كاظم وكريري محمد السلمان:
بدعوة من الجمعية الثقافية المندائية في لوند للشاعر الكبير مظفر النواب في 28/6/200 في مدينة لوند السويدية ثم تلتها في اليوم التالي يوم 29 حيث الشاعر مظفر عن تجربته الشعرية في مدينة مالمو السويدية.. حضرها جمهور عراقي غفير آنذاك.. وقد تعرض لسؤال من احد الحاضرين..
- كيف تعلمت المفردات اللهجة الجنوبية وانت ابن مدينة بغداد/ الكاظمية؟؟؟
- اجاب مظفر : تعلمت من جويسم كاظم وكريري وسيد فالح في خمسينات القرن الماضي عندما ذهب الى مدينة العمارة وتعرفت عليهم وعشت معهم..
فمن هما . جويسم وكريري؟؟
انهما ابناء محافظة ميسان...
هو جاسم كاظم الهليجي تولد في ناحية الكحلاء 1910 وتوفي 1990 وكريري محمد السلمان تولد ناحية الكحلاء قرية المعيل. تولد 1907 وتوفي 1986,, لا يذكر اسم جويسم والا ويكون معه كريري
جويسم كاظم يمتلك خامة صوتية نادرة يؤدي طور المحمداوي بلونه الخاصة ولهذا تجد صعوبة من يقلده، واحيانا يعني بطريقة صديقه سيد فالح وتسمى باللون ( الفالحية). كذلك بطور الثية وغيرها من الاطوار لكن بشكل محدود جدا. اما كريري فهو يجيد البستة فقط, فهو يرافقه بإيقاعه الخاصة وهي( الصينية ) بعد ان يضع مسبحتة بها...جويسم يغني ويندمج ويتفاعل مع الطور ويدخل مرحلة التجلي محركا راسه يمينا وشمالا منفعلا.. تشعر وكأن شيئاً يثور او ينفجر بداخله يصف هذه الحالة الشيخ محمد العريبي حين يسمعه بعبارة: :" چن المضيف تبربد عَلَيْ".. وتبربد تعني انهار او سقط. وعندما يصل الى الذروة , هنا يقاطعه زميلة ذو الصوت الرخم( قرار) الجميل كريري ببستة وكأن فرقة انشاد كاملة تنشد حينها يتوقف جويسم وتخمد ناره.. ويختم بعض الاحيان كريري بكلمة( مجعة) اي رشفة من كاس المشروب.. بطريقة مبهجة..
جويسم انينه يتفاعل مع انين طيور البراهين في هور الدبن الموحش . يتقاسمان الحزن السومري
من بعيد بعد ان يحبس أنفاسه ثم تنطلق احاسيسه المرهفة .
للاستماع على اليوتيوب
https://www.youtube.com/watch?v=X39IAp5-EIQ
https://www.youtube.com/watch?v=oCl28Fu8Ku4&t=2s
3-خضير حسن( مفطورة) ناصرية
من ارض مدينة الحرف الاول ، ارض الحضارات . سومر واكد، ذي قار.انجبت كوكبة من الفنانين والمطربين وغنت اطوار متعددة من الابوذية حتى تجاوزت العشرات ،هذه الاطوار الذي تحمل الحزن السومري ،حزن كلكامش على انكيدو،والذي انتقل الى كل مدن العراق. فالعديد من هذه الاطوار والألوان ا الغنائية اندثرت. بسبب صعوبة ادائها لأنها تمثل حالة شخصها ومبدعها، فالاغنية تعتمد على الامكانية والمساحة الصوتية للمطرب وكذلك الانتقالات في طبقات الصوت وشدة الصوت وروحيته وجماليته اي يمتلك ( ميلودي ) خاصا به , فمثلا عندما نسمع اغنية بصوت داخل حسن ( قرار) بتلك البحثة والشحن الجنوبي( الحسجة) تراها تختلف عما يؤدي حضيري لطور او لون اخر.. هذه ميزات الابوذية العراقية والتي ينفرد بها العراق ، بهذه الالوان، عن سائر شعوب الناطقين باللغة العربية وكما وصفها الموسيقار الكبير ، محمد عبد الوهاب، عندما قال: كل الاغاني في الدول العربية تدور في فلك الاغنية المصرية، عدا الاغنية العراقية فلها فلكها الخاص.
ولنتحدث عن واحد من اساطين اغنية الابوذية العراقية وهو خضير حسن والذي يلقب بأسم امه، خضير مفطورة، ذات الجبلي،بطور الشطيت، من شطط،اي انحرف عن مساره، فهو طور صعب يغنى على نغم البيات، بسبب الانتقالات السريعة صعودا ونزولا وكذلك مخارج الكلمات والمفردات ، فهو غناء فطري , يعتمد على امكانياته الصوتية، بالعديد غنوا هذا الطور، لكن بقوا في مجال اطاره، عدا الفنان الراحل ستار جبار قد اقترب الى روحية خضير حسن
خضير عندما كان يغني كان يمسك باي حائط منفعلا , معبرا عن آلامه تارة بفراق حبيبته وتارة من ظروف حياته التي يعاني من بؤسها وآلامها. وفي احد التسجيلات له وهو يسجل بستة( وانهدم بية وامشي على جالي الكوت) ، نسى النص بسبب انفعالاته ، لولا وجود الراحل حضيري ابو عزيز لإنقاذه الموقف وراح يغني معه ، وهذ ه تعتبر من جماليات التسجيل والابداع.. سجل خضير تسع اسطوانات وقد فقدت منها اثنتان .. توفي في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي.
بالرغم من رداءة التسجيل بسبب قدم الاسطوانات وتعرضها لنوع من التشويش والتلف , الاستماع لهذا الفنان العملاق ،خضير، بطور الشطيت، طوره الخاص.
https://www.youtube.com/watch?v=aN8qGj02rWc
https://www.youtube.com/watch?v=rKKZRgAti_c
https://www.youtube.com/watch?v=NmzFzk3ad28
كان انتونيو فيفالدي (1678 – 1741) أحد أشهر الموسيقيين في عصره، وعرف عنه عزفه الماهر على الكمان. طغت شهرته على كثير من معاصريه، بينهم الموسيقي الرائع ومواطنه الفينيسي توماسو آلبينوني (1671-1751). لكن صيت فيفالدي خبى بعد وفاته وزوال عصر الباروك، ونساه الناس. ولربما يعود الفضل في إبقاء الاهتمام به إلى ما اسميه "صرعة باخ" التي أصابت اوروبا في القرن التاسع عشر، لأن باخ كان بين المعجبين بفيفالدي، فقد قام بإعادة توزيع بعض كونشرتاته للهاربسيكورد بدلاً من الكمان بغرض تقديمها في مقهى تسيمرمان الشهير، مثلما قدم أعمال صديقه جورج فيليب تلمان والنمساوي يوهان يوزف فوكس والايطالي فرانشسكو جمينياني وغيرهم. ومع ذلك لم يُعرف إلا القليل من أعمال فيفالدي، هي ما نشر خلال حياته ولا تتجاوز 12 مجموعة من الأعمال الموسيقية للأدوات. خال الباحثون أن أعماله غير المنشورة فقدت، لغاية اكتشاف عدد كبير من أعماله محفوظة في دير بسان مارتينو بإيطاليا سنة 1926، جرى شراؤها ثم ترتيب إهدائها إلى المكتبة الوطنية في تورينو سنة 1927، بعد ذلك ألحقت بها مجموعة ثانية من مقتنيات الكونت دوراتسو من نبلاء جنوا سنة 1930. ومنذ ذلك الحين بدأت عملية اعادة اكتشاف أعمال فيفالدي التي لاتزال جارية حتى اليوم.
ارتبط اسم فيفالدي بدار أيتام الرحمة التي مولتها جمهورية فينيسيا. فقد عمل فيها لمدة 30 سنة وكان مسؤولاً عن تدريس البنات علوم الموسيقى والعزف على الأدوات، وقيادة فرقة الميتم وتأليف الموسيقى لها. وقد حصلت فرقة الميتم على شهرة كبيرة خلال فترة ادارته لها تخطت حدود فينيسا. وقدمت الفرقة الكثير من أعماله المهمة، منها اوراتوريو "انتصار يوديت" احتفالاً بانتصار جيوش جمهورية فينيسيا على العثمانيين واسترجاع جزيرة كورفو منهم.
برز فيفالدي في تأليف الكونشرتو لمختلف الأدوات الموسيقية، ولديه المئات منها. لكنه ألف أعمالاً غنائية كذلك، وبالذات الكثير من الأوبرات، أكثر من 94 اكتشف منها حوالي 50 لحد الآن، والكثير من الأعمال الدينية والدنيوية الغنائية المختلفة. لكن مع تأليفه الكثير من الأوبرات، لم يصل سمعة وشهرة معاصريه مثل السّاندرو سكارلاتي أو يوهان آدولف هاسه (الألماني الوحيد الذي بز الطليان بأوبراته) أو بالداساره غالوبي. من أشهر أعماله كونشرتات الفصول الأربعة، كتبها في مانتوا سنة 1717 أو 1718 أثناء اقامته فيها لثلاث سنين، وتعد ثورة في وقتها، إذ صور فيفالدي فيها الطبيعة بشكل غير مسبوق.
لكن الذوق الموسيقي تغير في أواسط القرن الثامن عشر، فقد ظهرت أجيال جديدة من الموسيقيين أولها جيل كارل فيليب إيمانويل باخ وبعده جيل فرانس يوزف هايدن، ونمت بذور الموسيقى الكلاسيكية التي أزهرت مع هايدن وموتسارت. ففقد جيل فيفالدي من عظماء الباروك المتأخر المبادرة.
انتهى المطاف بفيفالدي فقيراً مفلساً في فيينا التي توفي فيها غريباً وقد جاء اليها أملاً في شغل وظيفة مرموقة عند كارل السادس امبراطور النمسا.
××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××
الفصول الاربعة، كونشرتو الربيع بعزف الايطالي البارع جوليانو كارمينيولا على كمان صنع في 1733
http://www.youtube.com/watch?v=xDwKuaK_KsE
وهذا كونشرتو باسون (وتسمى هذه الاداة الهوانية كذلك فاگوت في البلدان المتأثرة باللغة الالمانية)، رقم 497
http://www.youtube.com/watch?v=H3Udfqbvi-U&feature=related
وحتى نكون فكرة عن اوبرات فيفالدي، هذا آريا من اوبرا لا تمرلانو (وتعرف كذلك بعنوان بايزيد، ألفها في 1735)، بأداء سيسيليا بارتولي
http://www.youtube.com/watch?v=_WvYa1rH2ns
كورس رائع من اوراتوريو انتصار يوديت
http://www.youtube.com/watch?v=8jCKbHDN5os&fmt=18
أخيرا، هذه سوناتا رقم 77 لكمانين وقرار مستمر
http://www.youtube.com/watch?v=VvTz_91Vn8o
يعتبر قارا ابوالفز اوغلو قراييف (1918 – 1982) واحد من أهم المؤلفين الموسيقيين الآزريين في القرن العشرين الى جانب الرائد عُزير حجي بيوف ونيازي حجي باييف (1912 – 1984) وفكرت أميروف (1922 - 1984).
درس قراييف الموسيقى في كونسرفاتوار باكو (تأسس سنة 1920 بجهود حجي بيوف)، ألف في سن العشرين كانتاتا "اغنية القلب" وقدمت سنة 1938على مسرح البولشوي بحضور ستالين، عندها كان قراييف طالبا في كونسرفاتوار موسكو، حيث أصبح تلميذاً ومن ثم صديقاً لشوستاكوفيتش. عاد الى باكو وعمل مدرسا في كونسرفاتوار باكو، وحصل في العام 1945 على جائزة ستالين بالاشتراك مع المؤلف الآزري جودت حجييف بعد تأليفهما اوبرا بعنوان "وطن". ألف عمله القصيدة السيمفونية ليلى والمجنون وقدمه في 1948، وهو عمل جلب له جائزة ستالين للمرة الثانية. ملحمة ليلى والمجنون (بالآزرية: داستان ليلى ومجنون) هي من الأعمال الأدبية الشهيرة في آذربيجان التي كتبها الشاعر والكاتب والمفكر محمد بن سليمان المشهور باسم فضولي (1494 – 1556) وهو من من عشيرة البيات، والملحمة هي ترجمة لقصيدة ليلى ومجنون التي كتبها الشاعر الفارسي الكبير نظامي (1141 - 1209). من بين الأعمال الاخرى التي استلهمت قصة قيس وليلى ما كتبه المؤلف الآذربيجاني عُزير بَي عبد الحسين اوغلو حجي بيوف (1885 – 1948) وأسماه "مقام أوبرا" وهو خلطة غريبة: أوبرا لكن باستعمال الغناء التقليدي الآزري المستند الى المقام، لها افتتاحية وبعض الفواصل الاوبرالية الموسيقية. قدم هذا العمل مبكراً في باكو سنة 1908، وبذلك يعتبره الآزريين أول اوبرا في العالم الاسلامي.
أصبح قراييف عميداً لكونسرفاتوار باكو بعد وفاة مؤسسه حجي بيوف سنة 1948. ألف عمله الشهير الثاني وهو باليه الجميلات السبع سنة 1952 التي استندت الى قصيدة شهيرة لنظامي، ألحقه بباليه اخرى سنة 1958 بعنوان طريق الرعد موضوعها قصة حب بين معلم أفريقي وفتاة بيضاء في جنوب أفريقيا (حاز العمل جائزة لنين سنة 1967). توفي قراييف في موسكو سنة 1982، ودفن في باكو بعد أن ألف أكثر من 110 عمل موسيقي بضمنها اوبرات وباليهات وسيمفونيات وموسيقى الحجرة وأعمال للبيانو وأغاني وموسيقى الأفلام. أسهم في الحياة الموسيقية في الاتحاد السوفيتي عبر نشاطه في اتحاد المؤلفين الموسيقيين السوفيت وأصبح سكرتيراً للاتحاد بين 1954 – 1973، وكان عضواً في اللجنة المسؤولة عن منح جائزة لينين الرفيعة (بين 1954 – 1982).
ازدهرت الفنون الموسيقية حسب التقاليد الأوروبية في باكو وآذربيجان منذ فترة مبكرة بتأثير السيطرة الروسية القيصرية في القرن التاسع عشر، فشهدت باكو أول عرض للأوبرا في 1889. جرى تنظيم التعليم الموسيقي بشطريه الشرقي والغربي خلال الحكم السوفيتي، وأسهم موسيقيون سوفيت كبار من وزن راينهولد غلِيير (1875 – 1956) في بناء مؤسسة التربية الموسيقية وفق اصول علمية صحيحة.
ويعتبر كونسرفاتوار باكو من المراكز التعليمية المهمة التي تخرج منها عدد من الموسيقيين المعروفين ومنهم الفنان العراقي الملحن كوكب حمزة الى جانب الموسيقيين الأزريين الكبار.
××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××
آزاد علييف يقود الاوركسترا الوطنية الليثوانية:
https://www.youtube.com/watch?v=ZCQ-ReSMYkI
https://www.youtube.com/watch?v=MQp0I6R9Yjg&t=2s
كان فيلكس مندلسون – بارتولدي (1809 – 1947) طفلاً معجزة مثل موتسارت. اشترك في أول حفل موسيقي عام وهو في التاسعة، وألف بين الثانية عشرة والرابعة عشرة من عمره الكثير من الأعمال، بينها 12 سيمفونية للوتريات. نشر أول عمل له وهو في الثالثة عشرة. وهو مثل موتسارت، توفي في سن مبكرة اذ لم يتجاوز الثامنة والثلاثين، وتأثيره على الحياة الموسيقية لا يقل أهميةً عن تأثير موتسارت. فقد أسس وقاد حتى وفاته واحدة من أشهر الفرق الموسيقية وهي فرقة جيفاندهوس في لايبسج، وكان أول قائد اوركسترا معاصر بالمعنى الحقيقي. يعود الفضل له في اعادة اكتشاف موسيقى باخ بعد تقديم أهم أعماله سنة 1829 وهو في العشرين من عمره.
ألف عمله ثماني الوتريات في مي بيمول الكبير وهو في السادسة عشرة، وبعد سنة ألف عمله الشهير حلم منتصف الصيف استنادا الى مسرحية شيكسبير الشهيرة، وهذان العملان هما أشهر أعماله "الطفولية" ويؤشران بداية مرحلة النضوج الفني عنده. يقول الباحثون والمؤرخون الموسيقيون الذين درسوا أعماله أنه لربما قد فاق موتسارت في سرعة تطوره الفني. إذ لا نعرف في تاريخ الموسيقى مؤلفاً آخر في هذا العمر كتب عملاً موسيقيا ناضجاً لهذه الدرجة مثل ثماني مندلسون، حتى موتسارت الذي بدأ يؤلف في سن أبكر، لم تكن أعماله الطفولية في هذا المستوى الفني الناضج.
أنجز مندلسون كتابة الثماني الوتري في 15 تشرين الأول 1825 كهدية لاستاذه معلم الكمان ادوارد ريتس. لاحقاً أجرى بمناسبة العرض العام الأول في 1836 تعديلات طفيفة عليه. هذا العمل الجميل مكتوب لرباعيين وتريين (أي أربعة كمانات وأثنتين من الفيولا ومثلهما من التشلو). هذا التوزيع جديد لحد ما في ذلك الوقت. فثماني بيتهوفن للهوائيات (1792) نشر بعد وفاته في 1827، وكتب شوبرت ثماني في 1824 لرباعي وتري اضيف اليه كونترباص وكلارينيت وهورن وباسون. وحده لويس شبور (1784 - 1859) كتب رباعية وترية مزدوجة سنة 1823، لكنه تعامل مع الأدوات كرباعيين وليس كفرقة موحدة من ثماني أصوات مثلما استعملها مندلسون في عمله.
يبدأ العمل بلحن متسامي يحلق ويطير (على مدى 3 اوكتافات أو دواوين) قبل أن يعود الى الأرض ليبدأ اللحن الثاني الذي يسير بمدى صغير لا يزي عن بضعة نغمات صعودا ونزولاً. هذان النمطان من الألحان هما المدخل للمبدأ الذي استعمله المؤلف في هذا العمل.
الحركة الأولى في شكل السوناتا (عرض – تفاعل – إعادة – ختام أو كودا). الحركة الثانية أكثر استرخاء، ليس لبطئها فحسب، بل لتوزيعها الجميل والابتكار الذي تحتويه، فهي مثال ناصع للموسيقى الرومانتيكية قبل أوانها. الحركة الثالثة (سكرتسو) أكثر أجزاء العمل شهرة، وتقدم أحيانا من قبل اوركسترا كاملة منفصلة. سريعة وخفيفة، خافتة، كحلم من الأحلام. الحركة الأخيرة مدهشة بتنوعها الشكلي (القالب) وحركتها وديناميكيتها وبنائها. نجد فيها عناصرا من الحركات السابقة في استعادة ونظرة الى الوراء قدمها لنا مندلسون بعنفوان الشباب وحيويته.
×××××××××××××××××××××××××××××× ×××××××××××××××
هايفتس، بيكر، بلنك، ستيبانسكي (كمان)، بريمرز، مايفسكي (فيولا)، بياتيغورسكي، رَيتو (تشلو) في تسجيل من 1961:
https://www.youtube.com/watch?v=KrITNrgQHuE
غاردينر 75 سنة
بلغ الفنان الانكليزي الكبير سير جون اليوت غاردينر الخامسة والسبعين الاسبوع الماضي. يعد غاردينر أحد أبرز ممثلي الأداء التاريخي الذي يدعو الى اداء الأعمال الموسيقية على الأدوات الموسيقية التي كانت مستعملة في ذلك العصر وحسب تقاليده. هو مؤسس وقائد ثلاثة من أفضل الفرق الموسيقية لهذا النوع من الأداء، وهي كورس مونتفردي (1966) وفرقة عازفي الباروك الانكليز (تأسست باسم فرقة مونتفردي سنة 1968 ثم تغير اسمها سنة 1977 بعد نبذ الأدوات الموسيقية الحديثة واستبدالها بالأدوات التاريخية) والفرقة الثورية والرومانتيكية (1989) وهي فرقة متخصصة في اداء موسيقى القرن التاسع عشر على الأدوات المستعملة في ذلك الوقت.
نشأ غاردينر في بيت يعشق الموسيقى، تعلم العزف على الكمان وكان في طفولته يغني مع والديه واخوته موتيتات باخ. وكان أحد جدران البيت مزين ببورتريه كبير لباخ، هو أشهر بورتريه لهذا الموسيقار العظيم. وكان البورتريه أمانة عند عائلة غاردينر منذ الثلاثينات حفاظاً عليه من الحرب العالمية الثانية (اعيد البورتريه الى أرشيف باخ في مدينة لايبزج قبل ثلاثة أعوام في احتفال كبير وبحضور غاردينر الذي أصبح مديراً للأرشيف منذ سنة 2014).
المثير في سيرة غاردينر أنه درس التاريخ واللغة العربية والاسبانية الوسيطة في جامعة كمبرج الشهيرة، وواضب في نفس الوقت على دراسة قيادة الاوركسترا. قدم خلال سنوات دراسته في كمبرج عرضاً تاريخيا لعمل كلاوديو مونتفردي (1567 - 1643) الشهير صلوات ليلية للسيدة العذراء (فسبرو) وعندها تأسس كورس مونتفردي الشهير. درس غاردينر عند الموسيقية والمربية الفرنسية الشهيرة ناديا بولانجيه (1887 – 1979).
منذ ذلك الحين عمل غاردينر في الكثير من الدول وقاد عدداً من الفرق وأدار فرق اوبرا (مثل اوبرا ليون) وأشرف على عدد من المهرجانات (مثل مهرجان فندل في غوتنغن). يتقن بعض اللغات الاخرى مثل الألمانية.
ارتبط عمله بموسيقى باخ بشكل وثيق، ولديه أكثر من 250 تسجيل لموسيقى عصور الباروك والكلاسيك والرومانتيك، بينها الكثير من النوادر. من تسجيلاته الشهيرة مجموعة كاملة لكانتاتات باخ، واوراتوريات هندل وبعض اوبرات موتسارت وسيمفونيات بيتهوفن التسع وأعمال مندلسون وبرامز وآخرين، وأغلب هذه التسجيلات هي تسجيلات حية، أن أنها لم تسجل في الستوديوات بالتالي هي تسجيل واحد لم يتكرر ولم يتعرض الى قص وإعادة منتجة الخ. وقد أصدرت شركة دويتشه غرامافون الشهيرة سنة 2013 مجموعة من أهم تسجيلات غاردينر لديها تألفت من 30 قرص وفيها تسجيلات فسبرو مونتفردي واوبرات برسل واوراتوريات باخ وهندل واوبرا غلوك واوبرا وكونشرتات البيانو لموتسارت واوراتوريو هايدن واوبرا وقداسات بيتهوفن وشومان وفيردي، وتنويعات ألغار وصولاً إلى اوبريت للمجري ليهار وموسيقى الاسترالي/الأمريكي برسي غرينجر وأغاني الألماني كورت فايل وتراتيل سترافنسكي وليلي بولانجيه (عاشت بين 1893 – 1918 اخت ناديا بولانجيه) من موسيقيي القرن العشرين.
×××××××××××××××××××××××××××××× ××××××××××××
قداس موتسارت (كوخل 626): كورس مونتفردي وفرقة عازفي الباروك الانكليز
https://www.youtube.com/watch?v=YwBlloqIdXc
تعد مقطوعة البحر التي ألفها سنة 1905 الموسيقي الفرنسي اللامع كلود ديبوسي (1862 - 1918) واحدة من أهم الأعمال الاوركسترالية التي ظهرت في تلك الفترة. هي في الحقيقة عمل سيمفوني يتألف من ثلاث أجزاء أسماها ديبوسي تخطيطات سيمفونية. يعتبرها الكثيرون أبلغ تعبير موسيقي عن البحر، وواحدة من درر الموسيقى التصويرية والانطباعية.
مع حلول نهاية القرن التاسع عشر، أضحت الحركة الرومانتيكية تدور في فلك التكرار. فبدأ قسم من الموسيقيين الفرنسيين بالبحث عن الجديد، فكانوا شغوفين بالتأثيرات الشرقية، في البداية لم يذهبوا أبعد من الموسيقية التقليدية الاسبانية، وبالذات الاندلسية. غير أن المعرض العالمي في باريس الذي اقيم في 1889 كان نقلة في التعرف على عوالم جديدة في الموسيقى. فقد جاءت فرق موسيقية من مختلف بقاع العالم وقدمت موسيقاها. لذا نشهد بعد هذا المعرض ظهور اهتمام خاص بالفنون الشرقية الصينية واليابانية والشرق آسيوية عموماً لدى الفنانين الفرنسيين والبلجيكيين. بل يمكنني أن أتجرأ بالقول أن التيار الفني المسمى "الفن الحديث" قد وصل الذروة في العمارة والزخرفة عبر هذا الشغف الكبير بالفنون الشرقية. ولم يكن ديبوسي وغيره من الموسيقيين الفرنسيين استثناء، خاصة إذا علمنا أن أباه امتلك متجراً لبيع الخزف الصيني. وقد تأثر ديبوسي على الخصوص بفرقة موسيقية من جاوا في اندونيسيا تعزف الموسيقى التقليدية (غاملان)، فنجده يقتبس عالم الأصوات الأندونيسي الخاص في عدد من أعماله اللاحقة، منها عمله المعنون "باغود"، إذ يستعمل فيه سلماً بنتاتوني (خماسي النغمات، مثلاً السلم المتكون من المفاتيح السوداء الخمسة على البيانو) وهو السلم المستعمل لدى العديد من الشعوب. والحال نفسه في "البحر"، حيث يستعمل السلم البنتاتوني بكثرة، وتأثيره على السامع هو زيادة الانشداد والتوتر.
استعمل ديبوسي اوركسترا فيها وتريات وزوج من الأدوات الأخرى وثلاث أدوات من كل من الباسون والترومبت والترومبون، وأربعة من الهورن، لأنها كانت تمثل اله البحر الأغريقي، علاوة على أداتي هارب وأدوات ايقاعية مختلفة للحصول على التأثيرات الصوتية المطلوبة.
لم تكن موسيقى جاوا المنبع الوحيد لهذا العمل الفذ، بل هو مزيج من عدة تأثيرات وخلاصة ما مر به من تجارب وخبر، من طريقة استعمال باخ للحلية والزخرفة حتى أناقة ورشاقة موسيقى شوبان وتأثيرات الموسيقيين الروس الذين نشطوا في باريس، مثل مودست موسورسكي.
تحمل القطع الثلاث اسماءا هي "من الفجر حتى الظهر" و "تلاعب الأمواج" و "حوار الريح والبحر". وتعكس الموسيقى هذه العناوين عموماً، فالاولى تبدأ بشيء من الغموض، تماماً كما يبزغ الفجر، تتبادل فيها الألوان والظلال. والثانية تعني الحركة وانتشار الضوء وسقوطه على الماء المتماوج واختراقه الأعماق المجهولة. أما الثالثة فتصور هاتين القوتين الهائلتين من قوى الطبيعة، الريح والبحر، والتدرج من هدوء البحر حتى الذروة العاصفة لعناصر الطبيعة. في الحقيقة تحيلنا القطعة الأخيرة الى لوحة يابانية كانت معلقة على جدار مشغل ديبوسي، رسمها الفنان الياباني هوكوساي كاتسوشيكا (1760 – 1849) سنة 1830 أو 1831، عنوانها "الموجة العظيمة أمام كاناغاوا" ويظهر فيها جبل فوجي المقدس عند اليابانيين.
×××××××××××××××××××××××××××××× ×××××××××××××××××××××
إيسا – بكّا سالونن يقود فرقة اوركسترا باريس:
https://www.youtube.com/watch?v=kxEMgHGrAPM
قطعة باغود من عمله استامب (طبعة) التي الفها سنة 1903، وفيها نفس الأجواء الاندونيسية:
https://www.youtube.com/watch?v=OdB2lkzG_v4
عالم الأصوات في الغامَلان الذي سحر ديبوسي
https://www.youtube.com/watch?v=HfrOSJRCsfM
لم يتردد اسم الفرنسي آلبريك ماغنار (1865 – 1914) كثيراً في عالم الموسيقى، صادفته للمرة الاولى بالأمس فقط عندما استمعت الى عمل للبيانو بعنوان "برومناد" فأثار اهتمامي لتفرده. وجدت فيه الكثير ملامح وتقنيات الجاز، لكن العمل كُتب حوالي سنة 1894 – 1895، قبل عقود طويلة من انتشار فن الجاز على صعيد عالمي. وفي نفس الوقت اختتم ماغنار قطع البيانو في هذا العمل بشكل الفوغا الذي ميز عصر الباروك. وكان ماغنار قد درس هذا الشكل بعمق في كونسرفاتوار باريس عند الموسيقار فنسان داندي (1851 – 1931) الذي أصبح صديقا له رغم الخلاف الذي نشب بينهما بسبب قضية الضابط اليهودي درايفوس، وهي قضية رأي عام قسمت المجتمع الفرنسي قسمين في نهاية القرن التاسع عشر.
كان ماغنار ابن فرانسيس ماغنار رئيس تحرير صحيفة الفيغارو المحافظة الشهيرة، وهو كاتب وصحفي ثري. لكن آلبريك لم يشأ أن يشب بصفته الولد المدلل للفيغارو، فبدأ يدرس الوسيقى ليبرع بها ويكتسب شهرته ونجاحه بجهوده الشخصية، ودعمه أبوه في هذا المسار قدر الامكان.
لديه القليل من الأعمال (22 فقط)، بضمنها أربع سمفونيات وثلاث اوبرات وأعمال موسيقى الحجرة مثل السوناتات (للكمان والبيانو وللتشيلو والبيانو) وثلاثية لللبيانو ورباعية وترية وخماسية للخشبيات والبيانو، ومجاميع من الأغاني، لكن هذا العدد القليل من الأعمال يشير الى موهبة موسيقية راقية.
قتل ماغنار على يد الجيش الألماني الغازي في بداية الحرب العالمية الاولى وهو يدافع عن بيته في بارون (منطقة اللواز القريبة من العاصمة باريس)، وعندها أحرق الجيش الألماني بيته فاحترق معه الكثير من أعماله الموسيقية غير المنشورة، بينها مجموعة أغاني جديدة.
اسلوبه خاص ومتميز، الحانه انسيابية وجميلة وفيها الكثير من الأصالة. يحمل سمات الموسيقى الفرنسية في تلك المرحلة التي برز فيها مؤلفون كبار مثل غابرييل فوريه وداندي وكلود ديبوسي وأريك ساتي ثم بول دوكا وموريس رافيل، وكلهم أضافوا الى الفنون الموسيقية لمساتهم الخاصة. وهنا نلمس تأثير تأثيراً واضحا للمدارس الفنية في الفن التشكيلي على الموسيقى، منها مايسمى بالانطباعية في الموسيقى، خاصة في أعمال ديبوسي الذي نفى بشدة أن تكون أعماله "انطباعية". الموسيقى الفرنسية وقتها طمحت الى التعبير عن الظل والضوء واللون بصورة غير مباشرة، تأثراً بالتشكيليين الفرنسيين الكبار آنئذ. ونلمس في أعمال ماغنار تأثير موسيقى فاغنر (وقد تأثر به الفرنسيون كثيراً على العموم)، ونلمس كذلك بعض التشابه مع موسيقى مالر، خاصة في تقنيات اللون وديناميكية الصوت. رغم نعته ببروكنر فرنسا (نسبة الى النمساوي آنتون بروكنر 1824 – 1896) ألا أن هذا يجانب الحقيقة بسبب تنوع موسيقاه مقارنة بموسيقى بروكنر ذات الاسلوب الواحد بطيئة الايقاع.
لم يكن ماغنار معروفاً في فرنسا كثيراً ومجهولاً لدرجة كبيرة خارجها حتى ما قبل ثلاثة عقود تقريباً، عندما بدأت الفرق تعزف أعماله وتصدر تسجيلاتها، خاصة سيمفونياته الأربع. اهتم الفرنسي ميشيل بلاسون بتقديم أعماله وصدرت تسجيلات كثيرة له وهو يقود بعض الفرق الفرنسية.
×××××××××××××××××××××××××××××× ××××××××××××××
برومناد للبيانو (عمل رقم 7)
https://www.youtube.com/watch?v=amWJ5GJhR2o
السيمفونية الثالثة (1893) بقيادة بلاسون مع فرقة تولوز
https://www.youtube.com/watch?v=KZt7GbwJCm0
السيمفونية الرابعة (1913)
https://www.youtube.com/watch?v=SDwfH5EsicA
خماسي للبيانو والخشبيات
https://www.youtube.com/watch?v=bf7Skl6L89I
نختتم العام 2017 بموسيقى الغيتار الاسباني، بالتحديد موسيقى غاسبار سانس أحد موسيقيي عصر الباروك الوسيط في اسبانيا (عاش بين 1640 – 1710). رغم استعماله في ايطاليا وفرنسا وغيرها من البلدان منذ فترات طويلة، يرتبط الغيتار بالموسيقى الاسبانية لدرجة كبيرة، منذ قرون وحتى اليوم. فقد برع الموسيقيون الاسبان بالعزف عليه، وكان ملائماً لروحيتهم الموسيقية. استعمل كذلك في الموسيقى الشعبية وما يعرف بموسيقى الفلامنكو، التي ترتبط بالموسيقى الاندلسية بأكثر من رباط..
عُرف أسلاف الغيتار منذ عصور طويلة، ومن المعتقد أن أصله يعود إلى الأدوات الموسيقية المبتكرة في حضارات سومر وبابل في أرض النهرين والحضارة الفرعونية في وادي النيل. وعرفت اوروبا نوعين من الأدوات المشابهة، الأول اسمه غيتارا لاتينا، أي الغيتار اللاتيني أو الايطالي وتظهر رسومه في مخطوطة تعود للقرن الثالث عشر في زمن الملك الاسباني آلفونس الحكيم هي أغاني مريم (المدى 19/11/2011)، والثاني غيتارا موريسكا، أي المغربي أو العربي. الأول له أوتار منفردة وفتحة صوت واحدة وجوانب مقوسة، أما الغيتار المغربي فصندوق الصوت فيه بيضوي الشكل وله عدة فتحات صوتية، بذلك يقرب من العود. كانت هذه الأدوات بأربعة أوتار، اضيف الى الأدوات وتر مزدوج خامس في القرن السادس عشر. أما غيتار الباروك فقد ظهر في اسبانيا بخمسة أوتار، ولم يظهر الوتر السادس إلا في القرن السادس عشر. ونعرف أن العود العربي كان بأربعة أوتار في البداية.
نعود إلى غاسبار سانس فنقول أنه ولد في أراغونيا، ودرس اللاهوت في جامعة سالامانكا، ذهب بعدها ليدرس في نابولي وروما وربما في فينيسيا كذلك. وهناك تعلم العزف على الغيتار وتأثر بأساتذة العزف على الغيتار في ايطاليا. أصبح معلماً للغيتار عند عودته الى اسبانيا، وألف كتاباً تدريسياً لتعليم الغيتار في ثلاثة أجزاء صدر في ساراغوسا (1674و 1675 و1697). تضم المجلدات تسعين عملاً هي كل ما وصلنا من أعماله للغيتار. لكنه لم يكتف بالموسيقى والعزف على الغيتار والاورغن، فكان شاعراً وكاتباً معروفاً في ذلك الوقت.
تأثر بموسيقاه الكثير من الموسيقيين المعاصرين، فأخذوا من بعض أعماله واستعملوها في مؤلفاتهم أو أعادوا توزيعها في حلة جديدة. منهم الانكليزي بيتر وارلوك الذي استعمل رقصة من رقصات سانس في متتابعته الشهيرة كابريول. أما الاسباني مانويل دي فايّا (1876 – 1946) فقد استعمل عملاً أخر من أعمال سانس لكتابة اوبرا للدمى (1923). وأخذ الاسباني صاحب كونشرتو الغيتار الشهير خواكين رودريغو (1901 - 1999) من أعمال سانس لكتابة "فنطازيا".
×××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××××
كاناريوس، بعزف جوليان بريم
https://www.youtube.com/watch?v=AICNKYFIgxY
غايارد، بعزف جوليان بريم
https://www.youtube.com/watch?v=sbWhkp32F3E
ماريونات (من مجموعة: ارشادات لموسيقى الغيتار الاسبانية)
https://www.youtube.com/watch?v=X5oyq1B8WPg
تعليم موسيقى الغيتار الاسباني، ساعة و22 دقيقة:
https://www.youtube.com/watch?v=oX2yBGyNQa4
هناك علاقة وثيقة بين اللغة الايطالية والموسيقى بشكل عام، وبينها وبين الاوبرا على الخصوص. إذ يستعمل الموسيقون اللغة الايطالية في عملهم بشكل كثيف، كل التوجيهات في النص الموسيقي المدونة، السكور، البارتيتورا على سبيل المثال كانت باللغة الايطالية قبل الفترة الرومانتيكية المتأخرة، عندما ظهرت اولى التوجيهات باللغات المحلية. والبارتيتورا، كما جاء في الجملة السابقة هي التسمية الايطالية للمدونة الموسيقية، في إشارة إلى مدى تغلغل هذه اللغة في عالم الموسيقى. لكن ما السبب الذي جعل اللغة الايطالية تحتل هذا الموقع المتميز في الموسيقي؟
تعود جذور الأمر إلى عصر النهضة، حيث انتعشت الفنون ومنها الموسيقى في إمارات ودوقيات إيطاليا التي انجبت ميكلأنجلو وروفائيل ودافنشي ومئات بل آلاف من الفنانين والمفكرين والعلماء. لا ننسى كذلك دور الكنيسة والبابوات الذين كانوا الحكام الدينيين والدنيويين في نفس الوقت (لنتذكراحتكار عائلة مديتشي للسلطتين على مدى أجيال متعاقبة). فالبابوات الذين كانوا من أهم رعاة الفنون وقتها في العمارة والموسيقى والرسم لحاجتهم إلى من يبني ويزين كنائسهم. لذلك كان الفنانون يحجون الى ايطاليا للدراسة والتعلم من أساطينها الموسيقى أو الرسم أو النحت، فوجد الموسيقيون اللغة التي تستطيع التعبير عما يودون قوله بشكل طيّع، ونظام التدوين الموسيقى المناسب لتدوين كل انواع الموسيقى وأعقدها. كما لعبت المطابع الاولى التي ظهرت في ايطالياً في أواخر القرن الخامس عشر دوراً هاما في هذا الشأن، وكانت مطبعة مديتشي في روما بين أوائل المطابع، حيث طبعت الترجمات اللاتينية لأهم الكتب العربية في العلوم، فساهمت في قيام النهضة الأوربية. طبعت هذا المطابع اولى المدونات الموسيقية في حدود بداية القرن السادس عشر، منها مجموعة أغاني بتروتشي الشهيرة من 1501 (رغم أنها ليست اولى المطبوعهات الموسيقية، فقد سبقها طبع القداس الرومي في 1476 على يد الألماني اولريخ هان الذي عمل في روما). وكانت الكتب الموسيقية المطبوعة تحمل الارشادات بالايطالية، فانتشر استعمالها في أوروبا مع وصول هذا المطبوعات الى كل المدن الأوروبية المهمة.
كانت نابولي على التحديد مهد الفنون الموسيقية في ايطاليا، فأكاديميتها الموسيقية هي أهم أكاديمية موسيقية في اوروبا حتى تأسيس كونسرفاتوار باريس لاحقا. وهناك في ايطاليا تم "اكتشاف" العديد من الأشكال الموسيقية مثل الكونشرتو والكانتاتا، وبالدرجة الأولى الأوبرا، التي كانت السبب الثاني في حصول اللغة الايطالية هذه المرتبة في الموسيقى. فقد غدت اللغة الايطالية لغة الأوبرا، حتى فترات متأخرة في القرنين الثامن عشر وحتى التاسع عشر، عندما كتبت الأوبرا باللغات المحلية مثل الالمانية أو الروسية أو التشيخية بعد تعاظم تأثير الحركات القومية. لكن هذا لا ينطبق على اللغة الفرنسية التي استعملت مبكراً منذ عصر الباروك. وكان موتسارت يؤلف اوبراته باستعمال ليبرتو بالايطالية مثلا، والليبرتو كلمة ايطالية تعني كُتيّب، تصغير لكلمة كتاب، في دليل آخر على قوة حضور اللغة الايطالية في الموسيقى.
××××××××××××××
باخ: الكونشرتو الإيطالية (عمل رقم 971) من تقديم أندراش شِف (تسجيل مهرجان باخ في لايبتسك، 1910)
https://www.youtube.com/watch?v=ghTitIMtTCM
اركانجلو كوريلّي: كونشرتو غروسّو رقم 8 من مجموعة رقم 6:
https://www.youtube.com/watch?v=muiK_0XWR-Y
من الآريات الشهيرة في اوبرا موتسارت الرائعة دون جوفاني (مغناة بالإيطالية)
https://www.youtube.com/watch?v=7cb1QmTkOAI
مقالة أسبوعية (كل سبت)
بقلم ثائر صالح
شرعت في كانون الأول 2010 بكتابة مقالات اسبوعية عن المقطوعات الموسيقية التي أحبها، والتي أود أن يشاركني متعة الاستماع اليها أصدقائي ومعارفي متذوقي الموسيقى والمجموعة المندائية على الانترنت الياهو الذين أرسلت اليهم هذه الكتابات القصيرة بهيئة رسالة بالبريد الألكتروني. ثم اتفقت مع صحيفة المدى البغدادية على نشرها كزاوية اسبوعية في صفحة ثقافة، فأصبحت لي زاوية صغيرة فيها بعنوان موسيقى السبت منذ خريف 2011.
ولا أخفي سروري لهذه الفسحة في النشر والتوسع في نشر هذه الكتابات القصيرة المتنوعة، إذ أعتبر هذا مجهوداً بسيطاً أُسهم به في إشاعة مفاهيم الجمال ومقاومة انتشار القبح والسطحية والفن الركيك مقابل تراجع مساحة الفن الرصين في كل المنطقة العربية. وقد سعيت إلى أن تكون هذه الكتابات واضحة وبسيطة، وتحوي أقل قدر من المصطلحات الموسيقية التخصصية التي حاولت شرحها بطريقة مبسطة ومفهومة. وقد استعملت في كتاباتي التسجيلات الموسيقية الموجودة على الانترنت، وبنيت هذه الكتابات حول الأعمال الموسيقية المتميزة.