• Default
  • Title
  • Date
  • عدي حزام عيال
    المزيد
      الجزء الثاني تزوج جدنا عيّال مرة ثانية من (مالية
  • عبد المنعم الاعسم
    المزيد
    بين عزيز سباهي وبيني سرّ ما يحدث للمندائيين هذه الايام،
  • رشيد الخيون
    المزيد
    يطلعك غضبان رومي في مذكراته، وبتفاصيل دقيقة، على سرعة تطور
السبت, 11 تشرين1/أكتوير 2014

ذاكرة معلم وتفاصيل مرحلة, للراحل الخالد غضبان الرومي

  رشيد الخيون
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

يطلعك غضبان رومي في مذكراته، وبتفاصيل دقيقة، على سرعة تطور المجتمع العراقي، فبين ليلة وضحاها غابت ممارسات وأشياء لتحل أخرى محلها. فما أن فتح حاكم قلعة صالح البريطاني (هتشكوك) مدرسة ابتدائية (1916)، بطلب من شيوخ الصابئة هناك، حتى استبدل الطلاب بالدشداشة والبالطو البنطلون والقميص، ودخلت على الألسن مفردات إنجليزية، وجلبت أدوية حديثة أخذت تدريجياً تحل محل (التعويذة) أو (الحرز)، كذلك غابت أسماء: مسحونة، غنيدة، شدود، كاشية، نوفة، كرسوع. وحلت محلها أسماء يعتقد أنها عصرية: سلام، توفيق، ليلى، عصام، عبير.
وصلت مهارة الصابئة في نقش الميناء (مادة معدنية سوداء) على الفضة إلى التاج البريطاني، عندما صنع الصائغ زهرون علبة فضية نقش عليها صورة الملكة فكتوريا، وبعثها هدية لها، وقد وصله كتاب شكر وتقدير، وكتاب توصية من الحكومة البريطانية، برعاية الطائفة المندائية، وتسهيل طلبات أسرة آل زهرون.
لم تفتني قراءة واقتناء مؤلفات غضبان رومي (1905 ـ 1989): «الصابئة بحث اجتماعي تاريخي ديني»، و«تعاليم دينية لأبناء الصابئة»، بترجمة وتقديم «الصابئة المندائيون» لليدي دراوور، وما كتبه في مجلة «التراث الشعبي» وغيرها. فليس لطالب معرفة حول هذه الجماعة تجاوز قلم أول المثقفين الصابئة المندائيين، وأول معلم بينهم. أدرك العهد العثماني، وسافر إلى بغداد للدراسة في مدرسة إعداد المعلمين (1921). وبهذا يحسب أحد بُناة التعليم الحديث بالعراق، وبالجنوب على وجه الخصوص، بدأ مشواره مع تعليم الإنجليزية والرياضيات والمنهج الابتدائي كافة في بداية العشرينات، بعد اختياره من قبل الموظفين البريطانيين لإكمال إعداد المعلمين ببغداد، وحينها أتقن اللغة الإنجليزية ولغته الدينية الأم الآرامية الشرقية، حتى برز فيهما مترجماً، واختير بعد ردح من الزمن للتدريس في مدارس بغداد النموذجية.
يروي كتاب غضبان رومي «مذكرات مندائية» (دار المدى 2007) قصة طائفة دينية ممزوجة بقصة تأسيس مدينة، هي مدينة قلعة صالح، التي أخذت اسم منشئ الكتيبة العثمانية صالح العكيلي (1865)، للسيطرة على تحركات العشائر، والمعارك الدامية بين بني لام وآل بومحمد، وصولاً إلى تاريخ التعليم الحديث، والتاريخ السياسي والاجتماعي. لقد توافد العراقيون، من مختلف الطوائف والأديان، للسكنى حول تلك القلعة منذ بداية بنائها، فهاجر الصابئة إليها من مناطق الأهوار الأخرى، ليقيموا فيها قراهم وورشات للنجارة والحدادة وصياغة الميناء. ووصلت مهارتهم في نقش الميناء (مادة معدنية سوداء) على الفضة إلى التاج البريطاني، عندما صنع الصائغ زهرون علبة فضية نقش عليها صورة الملكة فكتوريا، وبعثها هدية لها، وقد وصله كتاب شكر وتقدير، وكتاب توصية من الحكومة البريطانية، برعاية الطائفة المندائية، وتسهيل طلبات أسرة آل زهرون.
وعلى حد عبارة مؤلف الكتاب، كانت أصوات طرق الحديد ونشر الخشب تملأ الفضاء والنهر. وكان والده أوفر حظاً من أترابه، فهو إلى جانب صانع القوارب الخاصة بالشيوخ (الطرادات) اختص في صناعة الفدادين، وهي آلات الحراثة، ذات الحاجة الماسة في مواسم الزراعة المستمرة. توافد إلى المدينة من غير الصابئة اليهود، وكالعادة احتلوا المواقع التجارية وما يخص الصرافة، وقاموا بمهام البنوك في منح القروض، وكان مؤلف الكتاب يسدد ديناً لحسقيل، مقابل راتبه لمدة عام. أما المسلمون فاحتلوا مراكز الزراعة والتجارة أيضاً. عاش الجميع بتعاضد مع استقلال في العبادة والحياة الاجتماعية.
تجد في الكتاب تاريخ وتعاليم ديانة المؤلف. ونقرأ في الفصل الخاص بالصابئة، أن تسمية المندائية التي يحلو للصابئة تسميتهم بها، هي مفردة آرامية شرقية، وتعني شيئين: العارف، ومنها اشتقت مفردة المعرفيين، أي الغنوصيين، وعادة يشار بها إلى معرفة الله من «خلال تأمل أو تنسك أو تصوف، وتفكير عميق يقضي بأن هذا الكون يحتاج إلى خالق مدبر، أو إلى موجد مكوّن. ولذلك هم يعتقدون أن هذا التفكير العميق لا يحتاج إلى أنبياء ورُسل ليوصلوه إلى الناس، ويفرضوا عليهم طاعته وعبادته. وعلى هذا فقد أُفترض من جراء هذا الاعتقاد أن الصابئة لا يؤمنون برسالة الأنبياء، وهذا عكس ما توفره كتبهم، أي إيمانهم بآدم وشيت وسام ويحيى، ومنهم اشتقوا منابع ديانتهم» (ص 32).
أما مؤلف الكتاب، في الفصل نفسه، فيرى أن المندائي مفردة مشتقة من مندا، وهي تعني، إضافة إلى العارف أو العقل، المُوحد، ومنها أخذت مفردة (مندي)، أي المعبد الصابئي، وهي بالتالي محل التوحيد. وأشار المؤلف إلى (مندا اد هي) في الديانة الصابئية، وهو اسم أحد الكائنات النورية أو الأُثريين، بأنها تعني «توحيد الله وعبادته». وتأتي في كتب المندائيين بالحياة الأولى، أو العارف بالله. والله بالنسبة لأبناء هذه الطائفة هو: «خالق علوي يعجز الإنسان عن وصفها أو معرفة تكوينه وكنهه، لأن أي وصف تطلقه عليه سيكون دونه، لأنه أكثر دقة وشمولاً من ذلك الوصف».
يدلك غضبان رومي، بتفاصيل دقيقة، على سرعة تطور المجتمع العراقي، فبين ليلة وضحاها غابت ممارسات وأشياء لتحل أخرى محلها. فما أن فتح حاكم قلعة صالح البريطاني (هتشكوك) مدرسة ابتدائية (1916)، بطلب من شيوخ الصابئة هناك، حتى استبدل الطلاب بالدشداشة والبالطو البنطلون والقميص، ودخلت على الألسن مفردات إنجليزية، وجلبت أدوية حديثة أخذت تدريجياً تحل محل (التعويذة) أو (الحرز)، اللتين كان شيوخ الصابئة والمسلمين يهدئان بها أوجاع الناس وآلامهم، وفيهما من الرزق (الحلال). كذلك غابت أسماء: مسحونة، غنيدة، شدود، كاشية، نوفة، كرسوع. وحلت محلها أسماء يعتقد أنها عصرية: سلام، توفيق، ليلى، عصام، عبير. مع العلم أن الصابئة، قديماً وحديثاً، ظلوا يتوارثون أسماء مفضلة في عرفهم الديني: بابل، نابل، زهرون، بهرام..إلخ. وأسرعت العملة النقدية بتحولاتها: ليرة، مجيدي، اقران، باون، روبية حتى استقرت على الدينار العراقي.
كتاب مذكرات غضبان رومي، التي توقفت قبل وفاته بخمسة أعوام، أي (1982)، على الرغم من صغر حجمه، كان جامعاً لدقائق الأمور، وفيه مسح شامل لأحداث لا يتمكن من إحضارها، وبهذه الدلالة وقلة الكلام، إلا أديب أريب، وذاكرة متوقدة، لا تهمل الزوايا الخفية. تقرأ في صفحة (117) تاريخ ديانة ومدينة وأجيال من البشر وتاريخ سياسي، ينقلك صانعها من حديث دار بينه وبين مدير مدرسة إلى تاريخ التعليم، ومن موقف هزيل حاول فرضه عليه موظف يعمل لحساب الأمن إلى تاريخ السياسة العراقية، وشطحات الأنظمة المتوالية.
تحدث حول العهد الملكي، بما فيه من مسرات ومعسرات، والعهد الجمهوري، لم يجامل حركة اليسار، رغم أنه محسوب عليها، واعتقل بتهمة الانتماء إليها، من دون الانتساب إلى حزب أو جماعة. تحدث كشاهد عيان حول شخص تبوأ يوماً من الأيام قيادة الحزب الشيوعي العراقي، وهو مالك سيف، وكان من أبناء ديانته، أنه كان يجمع بين الهزالة وعدم العفة، وكم من أمثاله تبوأوا المراكز في الحزب، فكان ما كان بُعيد تموز 1958 من صدامات سياسية ودماء ما كان لها أن تسيل لو كان المنشود سعادة العراق. وأفاض في الحديث حول البعثيين، وما أوصلوا البلاد إليه من مآسٍ.
كان غضبان الرومي عراقياً أراد أن تتأسس الأشياء على المسؤولية الوطنية، إلا إنه كان يتفاجأ، حتى لم يعد الأمر مفاجأة، بسراق وحياليين من كبار الموظفين، لا يتأخرون عن رميه في قضية تآمر على الدولة، أو تقصير في واجب. كان شاهداً في الثلاثينات على مديري تربية ومدارس كتبوا بنفوق بقرة المدرسة، التي تدر على الطلبة بالحليب وتستخدم وسيلة إيضاح للتعليم، بعد بيعها لعدة مدارس ومن كل مدرسة يستحصلون المبلغ، ثم بيعت إلى شخص خارج الدائرة وأعلنوا نفوقها، واحتفظوا بجلد بقرة أخرى كدليل. ويتحدث عن مسؤول كتب تقريراً كاذباً إلى الدائرة المركزية عن نفوق دجاجة إدارة التربية، التي كانت تُربى عادة في حقول المدارس، مع أنها ذُبحت ووزعت على كبار موظفي التعليم والتربية. لذا كان غضبان الرومي متشائماً في ذكرياته، فمَنْ يتحايل على نفوق بقرة ودجاجة لا يتأخر عن رمي الوطن بأكمله في أتون جهنم. ما حصل في الأمس القريب ويحصل اليوم لا يبعث على التفاؤل.
قبل أيام وقفت امرأة أمام الجمهور المجتمع في قاعة غاليري بروناي وسط لندن، في محاضرة للمختص بالآثار دوني جورج حول أوضاع المسيحيين بالعراق، وناشدت المتحدثة المجتمع الدولي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقية الصابئة المندائيين الذين يتعرضون للقتل والتهجير، متطرقة إلى تاريخ ديانتها، الضارب عمقاً في أرض الرافدين. لم تكن تلك المرأة سوى ابنة غضبان رومي، ليلى، التي يتردد اسمها في الكتاب، والتي ورطت والدها عندما كتبت مادة إنشاء في المدرسة تحرض فيها ضد نوري السعيد بل تمنت شنقه. ولأن تلك الأيام كانت تُرجح الليونة على الصلابة، أُكتفي بفصلها عاماً دراسياً، مع وضع الأب تحت المراقبة، ومن دون إيذاء.
بعد الانتهاء من قراءة الكتاب سيجد القارئ ثمة عدم انسجام بين عنوان «مذكرات مندائية» ومضمون الكتاب. فبعد الشك في أن يكون العنوان من وحي المؤلف، وهو صاحب المعرفة والدراية بالتأليف، ظهر لي أن العنوان الأصلي كان «مذكرات معلم»، ثم استبدل قُبيل النشر بعنوانه الحالي، مع أن الأحداث كافة تفرعت من مهنة المعلم. وأجد باستبدال العنوان بعد وفاة المؤلف فيه شيئاً من التجاوز، وعدم أمانة للحقوق والواجبات.

الدخول للتعليق